هل جودت سعيد امتداد لمالك بن نبي؟ مدرسة اللا عنف
ما يمتاز به إنتاج المفكر الجزائري مالك بن نبي هو تصديه لمعالجة مشكلة النهضة من منظور حضاري، موظفاً ثقافته المزدوجة؛الإسلامية والغربية في تحليل جذور وأسباب المشكلة، ففي كتابه “شروط النهضة” يحدد مشاكل العالم الإسلامي، والعوامل التي يمكن أن تحقق نهضته وانبعاثه، فهو يحدد المشكلة في جوهرها بأنها مشكلة حضارية، ويرى أن أعمال النهضويين الأوائل افتقدت الشمولية وكانت مجزأة “فرأى رجل ــ كما يقول ـ سياسي كجمال الدين الأفغاني أن المشكلة سياسية تُحل بوسائل سياسية، بينما رأى رجل دين كالشيخ محمد عبده أن المشكلة لا تُحل إلا بإصلاح العقيدة والوعظ … فالعالم الإسلامي يتعاطى هنا حبة ضد الجهل، ويأخذ هناك قرصاً ضد الاستعمار، وفي مكان قصي يتناول عقاراً كي يشفى من الفقر… ولكننا حين نبحث حالته عن كثب لن نلمح شبح البرء، أي أننا لن نجد حضارة …
يأخذ مالك بن نبي على المسلمين غياب مبدأ الفاعلية من حياتهم، حيث يقول ـ في كتابه وجهة العالم الإسلامي ـ “العالم الإسلامي لم يبلغ بعد درجة النشاط، أو العمل الفني الذي يُعَدُّ وحده كفيلاً بتحديد مكانه في العالم الحديث الذي يحتل مبدأ “الفاعلية” أول درجة في سلم القيم، وهذا المبدأ من أحوج الأمور بالنسبة لنا”.
إن مالك بن نبي يركز كثيراً في دراساته وتحليلاته على مفهوم قرآني يَرُّدُ الخلل ويُرِجعه إلى الذات{قل هو من عند أنفسكم}، فهو يقول في كتابه “شروط النهضة” “إن الاستعمار ليس من عبث السياسيين ولا من أفعالهم بل هو من النفس ذاتها، التي تقبل ذلك الاستعمار، والتي تمكن له في أرضها”، وهو يرى أنه حينما يحدث “تحول نفسي يصبح معه الفرد شيئاً فشيئاً قادراً على القيام بوظيفته الاجتماعية، جديراً بأن تحترم كرامته، وحينئذ يرتفع عنه طابع القابلية للاستعمار … فكأنه بتغيير نفسه قد غير وضعية حاكميه تلقائياً إلى الوضع الذي يرتضيه …” وهو صاحب المقولة الرائعة الشهيرة “إذا تحرك الإنسان تحرك المجتمع والتاريخ، وإذا سَكَنَ سكن المجتمع والتاريخ، وهذا يضعني أمام مشكلة تصنف تحت عنوان الفاعلية”.
يقوم مشروع ابن نبي الحضاري ـ إجمالاً ـ على عدة عناصر ألا وهي: إنسان + تراب(مادة) +زمن، وهو يولي الدين، والحماسة الروحية دوراً هاماً في إحداث الاندماج بين هذه العناصر وتفاعلها، حتى يتحقق مبدأ التاريخ التكويني الذي ورد في القرآن الكريم{إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}، وهو يقرر “أن الحضارة تولد مرتين: أما الأولى: فميلاد الفكرة الدينية، وأما الثانية: فهي تسجيل هذه الفكرة في الأنفس أي دخولها في أحداث التاريخ” ، وينتقد ذلك الفهم القاصر الذي يقصي الدين عن دوره الفاعل في الحياة، ويعزله عن أداء وظيفته الاجتماعية التي يجدر بالمتدينين أداؤها، فيقول:”أما حين يصبح الإيمان إيمانا جذبياً دون إشعاع، أعني نزعة فردية، فإن رسالته التاريخية تنتهي على الأرض إذ يصبح عاجزاً عن دفع الحضارة وتحريكها، إنه يصبح إيمان رهبان، يقطعون صلاتهم بالحياة، ويتخلون عن واجباتهم ومسؤولياتهم”.
لقد أحدث فكر مالك بن نبي تأثيرا بالغاً في الأوساط الثقافية العربية والإسلامية، وحمل أفكاره ورؤاه مفكرون ومثقفون وكتاب، لعل من أبرزهم الشيخ الأزهري جودت سعيد، والطبيب السوري خالص جلبي، وقد أقام الشيخ سعيد مشروعه الفكري على ثلاثة أفكار مركزية وأساسية، الأولى: الدعوة إلى اللا عنف ونبذ القوة، والتي تناولها بالتفصيل والبيان في كتابه “مذهب ابن آدم الأول”، والثانية: بيان سنن تغيير ما بالأنفس، وهي الفكرة المحورية التي أقام عليها كتابه “حتى يغيروا ما بأنفسهم”، أما الفكرة الثالثة فهي التأكيد على أن القراءة هي التي توصل إلى معرفة تلك السنن والتي بحثها بتوسع في كتابه “اقرأ”.
يمتاز جودت سعيد بأنه ذو عقلية منفتحة ـ وهو يتلاقى في ذلك مع مالك بن نبي ـ يتواصل من خلالها مع تيارات الثقافة الإنسانية الواسعة، وهو دارس متابع للعلوم الاجتماعية والإنسانية، كما أنه قارئ للمذاهب الفلسفية القديم منها والحديث، وتستهويه دراسة التاريخ بنظرات تحليلية تروم استخراج السنن الحاكمة لمسيرة التاريخ، والكاشفة لقوانين صعود الأمم وانحدارها، وقيام الحضارات وانهيارها، وهو مع تشبعه بالمعرفة الإسلامية، وتضلعه بالدراسات القرآنية فهما واستدلالاً بحكم دراسته الأزهرية، إلا أنه يوسع دلالات الآيات، موظفا ثقافته الواسعة، ومطالعاته الغزيرة، في فهم النصوص، ومن ثم فانه يُحَمَّلها بدلالات مذهبه الذي يراه، ويشبعها بأبعاد رؤاه التي يؤمن بها ويدعو إليها.
الشيخ جودت سعيد بمنهجيته الفكرية، ورؤاه الاجتهادية، يعتبر نسقاً فكريا متفرداً، يخرج عن مألوف الأفكار الإسلامية السائدة، والذي ينحو فيه منحىً عقلانيا يُعظم فيه من شأن السنن حتى لتكاد أن تقارب الحتميات المادية، ويعلي مكانة الأسباب المادية في صورة تكاد أن تأتي بالإلغاء على مساحات التأييد الرباني الغيبي، كما أن الشيخ تغلب عليه النزعة الانتقائية في منهجه الاستدلالي، إذ أنه ينزع إلى انتقاء الأدلة التي تخدم رؤاه، ويتغاضى عن أدلة أخرى إن لم تقوض أركان تلك الرؤى من أساسها فهي تشكل اعتراضات جوهرية وجادة تُلزم من تَرِد عليه أن يشتغل بها ليدفعها ويفككها.
يرى جودت سعيد أن الأمة قد فقدت رشدها، لأنها عدلت عن قوة الحجة والإقناع، وسلكت مسلك القوة المادية، وهو يقول إن التغيير بالقوة لا يأتي بالرشد، وأن الذين يغيرون بالقوة ليسوا راشدين، لأن الحكم الذي يأتون به لا يكون راشداً، ويرى في مقام الاحتجاج لمذهبه الداعي إلى اللاعنف والنابذ للقوة، أن الرسل منعوا أصحابهم وأتباعهم من الدفاع عن أنفسهم، والصبر على أذى أقوامهم، ويرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم منع أصحابه من الدفاع عن أنفسهم حتى يقيموا مجتمع الرشد، ويستدل على عدم جواز الدفاع عن النفس بالأحاديث الواردة في النهي عن المشاركة، والكف عن الفعل في زمن الفتن، فينزلها منزلة الأدلة العامة المحرمة للدفاع عن النفس، ويذهب إلى أن مقاومة الاحتلال مبدأ غربي، ويقرر أن الحرب ماتت وانتهى دورها، لأن الأوروبيين على حد قوله يفتحون البلاد من غير جهاد وحروب. وهو في كل ذلك لا يفرق بين قوة تستخدم لمقاومة الاحتلال المغتصب، وأخرى تستخدم لإحداث الفتن الداخلية، وإراقة الدماء المعصومة، وتبديد طاقات المسلمين في حروب وصراعات أهلية توسع دوائر التخلف، وتعمق ضعف الأمة، وتزيد جراحاتها.
أفكار وآراء لا ينقصها الوضوح، تتضافر جميعا للتأسيس والتأصيل لفلسفة اللاعنف، ونبذ القوة، والمعبر عنه عند جودت سعيد بـ”مذهب ابن آدم الأول”. فما مدى التقائه مع مفكرنا مالك بن نبي في هذه الأفكار؟ وهل تمثل تلك الأفكار امتداداً طبيعياً لأفكار ورؤى ابن نبي؟؟
قد يكون من الصعب تقديم إجابة وافية واضحة على ذلك، غير أن الدارس لفكر مالك بن نبي، تستوقفه بعض الإشارات والنظرات في رؤيته الإصلاحية، والتي ينتقد من خلالها مشاركة الشيخ عبد الحميد بن باديس وإخوانه في جمعية الإصلاح، بالعمل السياسي، آخذا عليهم تلوثهم بأوحال السياسة، وتلطيخ بياض ملابسهم بالمناورات والانتخابات، ولقد لفت موقفه هذا نظر بعض الدارسين حتى اعتبروه احتقارا منه للعمل السياسي، ومن الوارد أن يكون الشيخ جودت سعيد قد تأثر بتلك الرؤية النابذة للعمل السياسي، إلا أنه وسعها لتشمل دوائر أوسع، ولتنظم مجالات أعم وأشمل.
Bassamnasser2004@yahoo.com
________________________________________
المصدر : جريدة الغد الأردنية 8/12/2005