نهضة قلم صرخة مالك بن نبي
د. ياسر علي
كنت عائدا من السويس إلي القاهرة في أواخر عام1993 حيث جمعنا القدر في حافلة للنقل العام مع المرحوم الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين المفكر الإسلامي المعروف وأستاذ اللغويات بدار العلوم.
حيث جرى حوار مطول حول مالك بن نبي المفكر الجزائري المعروف وجهده المعتبر في حقل الفكر العربي والإسلامي.
يومها أهداني الدكتور كتابا من الكتب التي كان يعتز بها ويعتبرها أهم كتب مالك بن نبي وهو كتاب شروط النهضة والذي ترجم الدكتور عبد الصبور شاهين معظم كتبه التي كتبها بالفرنسية، وسبب تذكري لهذا الموقف أن هذا اللقاء كان يوم31 أكتوبر وهو ذكرى وفاة المفكر والكاتب العظيم مالك بن نبي. وكنت قد قرأت هذا الكتاب قبل ذلك بأعوام لكن هذا الحوار لفت نظري إلى بعض الزوايا والمعاني التي لم أكن قد التفت إليها، ورغم أن هذا الكتاب يعتبر من أوائل ما كتبه إلا أنه وكتاب “الظاهرة القرآنية” أعتبرهما من أهم ما كتبه مالك بن نبي من بين كتبه التي تعدت خمسة وعشرين مؤلفا.
أتذكر يومها أن الدكتور عبدالصبور شاهين ظل طوال الرحلة وحتى مشارف القاهرة يشرح في معني ما قاله مالك بن نبي في مواضع مختلفة (نحن نستورد أدوات المدنية ولكننا لا نتعامل معها بشكل حضاري)، حيث ظل يلح على فكرة أننا دون أن نمتلك إطارا فكريا متكاملا يتحول إلي سلوك وتصرفات يومية معاشة داخل المجتمع المصري لايمكن لنا أن نمتلك فعلا حضاريا ونهضويا حقيقيا.
إن كتاب مالك بن نبي حول شروط النهضة كان صرخة مهمة للعقل العربي في إطار استنفار الشعوب العربية لبناء مشروع متكامل لنهضة حقيقية بعد حقبة استعمارية طالت وشملت العالم العربي والاسلامي من جاكرتا إلي طنجة، وبعد محاولات عديدة من مدارس كثيرة لرسم هذا المشروع وتوضيح مكوناته وشرح أدواته ووسائله.. جاء هذا الكتاب ليؤكد ان النهضة ليست فقط مشروعات اقتصادية وتنموية ترتفع مؤشراتها حينا وتنخفض حينا آخر، بل مشروع فكري متكامل لابد له من تربة تمنحه قابلية النمو والتطور وتجعل منه مشروعا متجذرا في تربة الوعي الجمعي مدعوما بقيم حاكمة في المجتمع تعلو فوق الأشخاص والأشياء وقبل ذلك نابعا من ثقافة هذا المجتمع وهويته.
إن انعدام التنظيم الاداري واختلال الاقتصاد وسوء الإدارة التنفيذية وشيوع الفساد، كلها أعراض لمرض وليست هي المرض نفسه ولكي نقيم نهضة حقيقية لبلدنا لايمكن أن يكون فقط بأن نكدس منتجات هنا وذاك أو ان نقدم حلولا جزئية لهذه الأعراض وإنما بأن نقدم حلولا حقيقية وفاعلة للمشكلات المتعلقة بالمكونات الأولية والرئيسية للمشروع حيث أن الحلول الجزئية لايمكن أن تقدم رؤية متكاملة.
مشكلة النهضة كما يصفها مالك بن نبي يمكن تحليلها إلي مشكلات أولية ثلاث( مشكلة الإنسان، ومشكلة التراب، ومشكلة الزمن). فالإنسان هو المحور الأهم وهو البداية الحصرية لهذا المشروع والذي تتضافر فيه التعليم والثقافة والقيم والتربية من أجل بناء إنسان النهضة، ولذلك لا يمكن التحدث عن مشروع للنهضة دون تغيير حقيقي وعمل جاد في الملفات السابقة. والتقدم في العلوم التطبيقية وزيادة الإنفاق علي البحث العلمي في مجال العلوم التطبيقية أمر في غاية الأهمية، ولكن لابد أيضا من التقدم في العلوم الإنسانية والأخلاقية حتى نستطيع بناء إنسان النهضة وصياغة المنظومة الفكرية والوجدانية لهذا الإنسان.
إن هوية مشروع النهضة وتحديد القيم الحاكمة له وتكوين العقل والوجدان وفق هذه القيم الحاكمة وخصوصا قيم العمل والإنتاج والاستهلاك ومفاهيم المتعة والسعادة هي شروط ومقدمات لابد لها من أجل مشروع متكامل قابل للحياة والاستمرار. وحين نتكلم عن التراب أو الأرض فإنما يقصد به مالك بن نبي قيمة الأرض والتراب الاجتماعية، وان التصحر الذي يغزو بشراسة خريطة الوطن يترك الناس يتامى بين يدي الصحراء المقفرة.
ولا يمكن أن نرى اللون الأخضر مرة ثانية على خريطة الوطن والناس يعيشون حالة تصحر داخلي على مستوى الفكر والرؤية والوجدان، وعندما نتصفح خريطة لدولة مثل ألمانيا نجد أن كل شبر في الوطن له اسم وله قيمة وله وظيفة وله معنى بينما خرائطنا تجد المربعات المتصحرة بلا أسماء وبلا معان وهذه تمتد بعشرات الكيلومترات. والعنصر الثالث وهو الزمن، هذا النهر الصامت الذي ننساه أحيانا وننسى قيمته التي لا تعوض وننسى أن فكرة الزمن يتحدد معناها بمدى التأثير والإنتاج الذي يعني الحياة الحاضرة الفاعلة، الزمن الداخل في تكوين الفكرة والنشاط وفي تكوين المعاني والأشياء، ولذلك كانت صرخة مالك بن بني عندما قال إن من الصعب أن يسمع شعب ثرثار الصوت الصامت لخطى الوقت الهارب هي صرخة النهضة الأهم.
إن محاولة مالك بن نبي البحث في مشكلات التخلف المزمنة متجاوزا في هذه الدراسة الأعراض السطحية، والمكونات الجزئية وباحثا عن السنن والأركان والقوانين اللازمة لبناء نهضة حقيقية لعبور حالة العجز إلى القدرة والفاعلية وحالة تكديس المادة إلى حالة بناء حقيقي تستكمل فيها العناصر الأولية والأساسية للنهضة هي من المحاولات الهامة. لكن يبقى السؤال وبعد أكثر من ستين عاما مما كتبه هذا المفكر الكبير وبعد تجارب كثيرة لبناء مشروع نهضوي وطني في كثير من دولنا العربية هل يمكن أن نراجع معا العناصر الأولية التي أشار إليها مالك بن نبي.. أن نحلل هذه العناصر إلى عناوين واقعية مصرية حديثة.. وبلا شك يحتاج الأمر إلى مناقشة أكثر عمقا وأكثر تفصيلا سنكملها في الأسابيع المقبلة.
رسالة إلى القراء:
عندما نشر المقال الأول في الأسبوع الماضي تلقيت عدة رسائل وتعليقات سعدت وشرفت بها حول ممارسة حقي في الكتابة، وهل هناك متسع من الوقت لذلك مع موقعي الذي أعمل فيه، ولذا فإنني أؤكد للقراء المحترمين أن الكتابة هواية أستمتع بها وأتواصل فيها مع المجتمع المصري الذي أنتمي إليه، وفي الوقت نفسه لا أسمح لهذه الهواية أن تتجاوز أي مسئولية أو تتقاطع مع أي مهمة أضطلع بها.
http://www.islamstory.com