موقع فكر مالك بن نبي في خطي الإصلاح وفلسفة التاريخ
الدكتور جيلالي بوبكر
مدخل :
إنّ التقدم الذي يحققه الإنسان من خلال العمل في حياته الفردية والاجتماعية يشكّل ظاهرة إنسانية متميّزة وفريدة في نوعها، منها تتشكّل الحضارة، وبها يقوم البناء الاجتماعي ويتحرك التاريخ، فتنهض الأمة وترقى في سُلّم التجديد الحضاري، وكل تغيير وتحوّل وتجديد في الفكر والسلوك، وفي نمط العيش وفي وسائل العمل وأساليبه وفي غير ذلك من جوانب حياة الإنسان يُعدُّ من روح التحضر ومن صميم الحضارة، ويُعرفُ بالتجديد الحضاري الذي هو وراء أيّ حضارة وأساس كل تقدم.
وظاهرة التجديد الحضاري ترتبط سببيا وحتما بكل فاعلية إنسانية تستهدف بناء الإنسان ذاتيا واجتماعيا وتاريخيا، وترتكز على أيّة انطلاقة نحو بناء التاريخ والتقدم وصنع الحضارة، فهي وراء كل نهضة أو صحوة بعد غفلة وضياع.
إنّ ظاهرة التجديد الحضاري ليست هبة من الطبيعة، وليست وحيا يُوحى من السماء، بل تنتج من الكدّ والجدّ والاجتهاد والمبادرة، ينهض بها مناضلون يحدوهم إيمان راسخ بعظمة الرسالة وتشدّهم عزيمة قويّة، وتقوى فيهم روح المسؤولية، فيكرسون حياتهم للرسالة الحضارية بعيدا عن اليأس والتردد ومن دون تراجع، على الرغم ما تنطوي عليه هذه المسؤولية وهذه الأمانة من مصاعب وما تسببه من مخاطر وما ينتج عنها من معاناة، فكان هؤلاء رواد نهضة وقادة فكر، وصناع تاريخ وأصحاب كلمة وعمل، فالكلمة الطيبة الخيّرة مستقلة وحرّة هي مسؤولية وأمانة، والفكرة الصحيحة درّة وجوهرة تنال التضحية والفداء في سبيلها، وتحمل كل الصعاب والتحديات لأجلها.
إنّ شهادة التاريخ تؤكد أنّ الانفجار الحضاري في أي عصر وفي أي مصر موصول سببيا وحتميا بأناس مناضلين، كلّ في موقعه، داعين إلى التجديد الحضاري ومدافعين عنه ومحددين شروطه ولوازمه، هو التجديد الذي ينبغي أن يقع في الإنسان ذاته، يحدث قي داخل أعماق نفسه، يجري بعد ذلك في المحيط الخارجي الاجتماعي والطبيعي الذي يعيش فيه الإنسان ، ذلك ما عرفته كافة الحضارات التي شهدها التاريخ، منها الحضارات الشرقية القديمة والحضارة اليونانية والحضارة الإسلامية وكذلك الأمر بالنسبة للحضارة الأوربية الحديثة والمعاصرة.
لمّا كان التجديد الحضاري شرط البناء الحضاري وأساس إستراتيجيته ومحرك التاريخ، هذا البناء وهذه الحركة كلاهما ينطلق بعناصر وشروط ولوازم، ويمر بأطوار وتواجهه مشكلات ويحصد منتجات في بيئة لا تخلو من النقص والضعف في جميع مجالات الحياة، والحضارة قد تقوم في حياة قوم ضارب في البدو والبساطة، كما قد تقوم في حياة قوم صحوا بعد غفلة ونهضوا بعد سبات وتطوروا بعد تخلف وانحطاط، في كل الحالات يتطلب الأمر بذل الوسع والتفاني في العمل والمزيد من ذلك في المجال الروحي والفكري والثقافي والعلمي من جهة وفي المجال العملي التطبيقي والتكنولوجي من جهة أخرى، يتعلق الأمر في المجال الثاني بالفنون والصناعات والتقنية والعمل ووسائل العمل وعلاقات العمل وغيرها، ما دامت الحضارة في جوهرها عبارة عن تقدم وتجديد في الجانب العلمي والفكري وانعكاس ذلك على الحياة المادية والعملية.
إنّ فعل التغيير الذي ينهض به رواد الفعل الإصلاحي وزعماء حركة التجديد لا ينطلق من العدم والفراغ بل له أسبابه وانعكاساته، ينمو ويتبلور تدريجيا حتى ينضج فيبلغ ويكتمل، فيصبح صالحا للاستعمال والاستثمار، هو الأمر الذي عرفته الحضارات السابقة والحضارة الإسلامية منذ أن تأسست على يد النبي صلى الله عليه وسلم إلى وقت أفولها وانهيار معالمها، ولم يبق منها سوى الذكريات والعبر محفوظة في الأذهان وفي الكتب وفي غيرها من مصادر التاريخ المباشرة وغير المباشرة .
لما جاء عصر الانحطاط شهد فيه المسلمون أزمة عميقة عمّت حياتهم ككل دينيا وفكريا وسياسيا واجتماعيا، وانتهى الأمر في العصر الحديث بتعرض كافة الشعوب العربية والإسلامية للغزو الاستعماري الفكري والثقافي والعسكري الأوربي، الغزو الاستعماري الذي جدّ واجتهد وبذل كل ما في وسعه لطمس الشخصية العربية الإسلامية، وسخّر لذلك كل ما أوتي من قوة مادية ومعنوية، فازداد العالم العربي والإسلامي ضعفا وانحطاطا على الرغم من المحاولات الإصلاحية والمبادرات التحررية والفكرية والسياسية المنبعثة ممن تسلّحوا بالروح الثورية الإسلامية سواء في مجال الفكر أو في مجال العقيدة أو في مجال السياسة، من هؤلاء المفكرين ورواد الإصلاح ودعاة التجديد وأصحاب الفكر الحرّ الداعي إلى النهضة “مالك بن نبي .”
يكاد يتفق الدارسون والنقاد من داخل الأمة العربية والإسلامية ومن خارجها في عصرنا على غياب رؤية فلسفية نقدية جريئة وجادّة ووجيهة للواقع والتاريخ والحياة عامة في العالم العربي والإسلامي المعاصر لدى زعماء الإصلاح ودعاة التجديد، وانعدام نسق فكري متكامل يتناول قضية الحضارة ومسألة التاريخ، والرؤية القائمة عاجزة تماما عن إدراك سنن وقواعد التغيير وعن الإلمام بشروط ولوازم النهضة الحضارية والبناء التاريخي، ويتعلق الأمر بدواعي التجديد وصنع الإبداع وإيجاد التطور والتقدم على مستوى الفكر والعمل، فليس بحوزة الفكر العربي الإسلامي الحديث والمعاصر “فلسفة حضارة” أو “فلسفة تاريخ”، فلسفة تسمح بالتخلص من الانحطاط والتخلف وتهدي إلى سبيل التحضر والتطور والازدهار، فكل حضارة من الحضارات التي عرفها الإنسان عبر تاريخه الطويل لها أسس وأصول فلسفية وفكرية وتاريخية تأسست عليها، تعكس تلك الأسس والأصول فلسفة الحضارة وفلسفة التاريخ باعتبارها الإطار الفكري التاريخي النظري المرجعي الذي تحتاجه أيّة نهضة ويحتاجه كل تغيير وتقدم .
في الواقع لا يخلو العالم العربي والإسلامي من محاولات فكرية إصلاحية ونهضوية تجديدية جادّة وجريئة تتسم بالنسقية والعلمية والوجاهة، لأنّ أزمات ومحن المجتمع العربي الإسلامي الموروثة والمتراكمة والعميقة أنتجت رواد فكر تميّز بالأصالة والإبداع والتجديد، تجاهلته الرؤية التي تنفي كليا عن الفكر وعن الثقافة في العالم العربي والإسلامي القوّة والمتانة، وتضعه دون مستوى الفكر الغربي، ومن هؤلاء الرواد “مالك بن نبي” وهنا نتساءل لماذا “مالك بن نبي”؟
كان “مالك بن نبي” مفكرا متميزا، اهتم بقضية النهضة ودرس موضوع الحضارة، ركّز بالدرجة الأولى على البحث في شروط النهضة ودواعي التحضر، وعمل على كشف وحصر أسباب التخلف والانحطاط، وعلى تحديد عوامل التراجع وسقوط الحضارات وأفولها، وقدّم نظرية في الحضارة وإستراتيجية في البناء الحضاري وفي تفسير التاريخ تختلف عن تلك التي جاء بها مفكرون غربيون محدثون ومعاصرون أمثال “أرنولد توينبي” و”أوزولد سبنجلر” و”فيكو” وغيرهم .
شغلت “مالك بن نبي” قضية الحضارة، فأدرك تماما أنّ مشكلة أيّ شعب في أصلها وفي جوهرها مشكلة حضارته، ولما كان العالم العربي والإسلامي يعيش حالة التخلف والانحطاط والانحلال والانعزال والاستعمار بمختلف أشكاله، عاش هو لأمته العربية الإسلامية، ولفكره ولنظريته التي تؤمن بأنّ العالم العربي والإسلامي المعاصر يمتلك من الطاقات والإمكانيات الروحية والمادية ما يدفع به فعلا إلى الإسهام الحقيقي في حلّ مشكلاته وهي مشكلات حضارة لا غير، وما يؤهله لبلوغ التحضر والرقي، وما يسمح بالمساهمة الفعّالة والحقيقية في مسايرة الركب الحضاري المعاصر وفي تطوير العالم .
إنّ التخلف الفكري والديني والثقافي والانحطاط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والاستعمار والقابلية للاستعمار كل ذلك أوضاع وظروف تسقط من الوجود إذا تمسكت الأمة الإسلامية بالقاعدة القرآنية التي تدعو إلى التغيير والتجديد والتحوّل على مستوى الذات الإنسانية أولا وفي داخل أعماقها، أما التغيير على مستوى العالم الخارجي الطبيعي والاجتماعي فيكون بعد التغيير الذاتي الباطني للذات الإنسانية ، ويكون الله في عون العبد المسلم ما دام يغيّر ذاته أولا ثم يغير محيطه الخارجي، عملا بقوله تعالى :” إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم” (1)
إنّ خطة “مالك بن نبي” وإستراتيجيته في البناء الحضاري وأسلوبه في الإصلاح والتجديد كل ذلك يعكس فكره وفلسفته في الحضارة وفي التاريخ، ويجد فيها من دون شك المسلم وغير المسلم في عالم التخلف والانحطاط تعبيرا عن أوضاعه وعن تطلعاته وآماله، كما يجد فيها الوسائل والسبل الكفيلة بالانتقال من عالم التخلف إلى عالم التحضر، فهي إستراتيجية تستحق العناية والاهتمام، وجديرة بالدراسة والبحث والاستثمار .
إنّ الإشكالية التي يعالجها البحث تدور حول ما تتميز به هذه الإستراتيجية عن غيرها من المحاولات الفكرية والمبادرات الفلسفية التي سبقتها أو تلك التي عاصرتها، ومحاولة “مالك بن نبي” أفرزتها ظروف تاريخية، فكرية وسياسية واجتماعية، عرفها العالم العربي والإسلامي الحديث والمعاصر، وشهدتها المحاولات الإصلاحية الأخرى لكنها لم تكن في مستوى محاولة “مالك بن نبي”. لذا تناول البحث الإشكالية في إطار أحوال العالم العربي والإسلامي في أيام “مالك بن نبي”، وفي سياق الحركة الإصلاحية الحديثة والمعاصرة داخل المجتمع العربي والإسلامي، وركّز البحث على نظرية الحضارة وعلى أسس ومعالم وملامح هذه النظرية، كما وقف على ظاهرة التجديد الحضاري من حيث أسسها وملامحها، خاصة ملمح إستراتيجية التجديد الحضاري واستمرار الأمة باعتبارها أساس إستراتيجية البناء الحضاري في فلسفة “مالك بن نبي”، ثم ركّز البحث على نقد الفكر الإصلاحي لدى “مالك بن نبي”، وعلى مكانة هذا الفكر الإصلاحي ومكانة النظرية المنبثقة عنه في سياق الحركة الإصلاحية الحديثة والمعاصرة في العالم العربي والإسلامي بصفة خاصة وفي العالم المتخلف بصفة عامة
إنّ الهدف من تناول نظرية الحضارة وإستراتيجية التجديد الحضاري في هذا البحث هو الكشف عن جوانب التفرد والخصوصية في هذا الفكر، وتبيان ما فيه من قوّة ومناعة تدفع بالمجتمع العربي والإسلامي إلى مراجعة ما آل إليه من تدهور وانحطاط في كافة مجالات الحياة، وارتبط ذلك بوجود حضارة غربية راقية ومزدهرة في كافة ميادين الحياة، خاصة ميدان وسائل العمل وأساليب السيطرة على الطبيعة، من خلال التقدم العلمي والتكنولوجي، باعتبار التقنية هي التطبيق العملي والمادي للنظريات والحقائق العلمية .
توجد اعتبارات كثيرة قديمة وحديثة تقول بأنّ مقومات الإبداع وشروط التحضر والتطور ليست من نصيب جميع الناس، فهي من اختصاص بعض الناس دون الآخر، بينما صيحة “مالك بن نبي” وغيره من أصحاب الفكرة الحرّة المسئولة أبطلوا كل هذه الاعتبارات الداعية إلى العنصرية المدمرة، والمكرسة لظاهرة التفاضل والتباهي بالأجناس القاتلة، فالحضارة لا وطن لها، والعلم ليس حكرا على أحد، والتقدم الحضاري من نصيب أيّة أمة طالما توفرت شروطه ولوازمه وظروفه.
إنّ إستراتيجية البناء الحضاري في فلسفة “مالك بن نبي” تُفند كليا ومطلقا ما تذهب فيه النزعة المركزية الأوربية من اعتبار الحضارة مرتبطة في أصلها ونشأتها بعنصر بشري معين وبجنس محدد له خصائصه البيولوجية لا توجد في غيره، وهي تقتصر على هذا الجنس، وإن وجدت ملامح التحضر خارج هذا الجنس فإنّها جاءت بفعل التأثر لا بفعل الإنتاج والإبداع .
تمثل نظرية الحضارة في فكر “مالك بن نبي” مرجعية التجديد الحضاري الذي هو أساس كل بناء حضاري، لذا تمّ التركيز في البحث على مفهوم الحضارة، وصلتها بالتاريخ، وبالثقافة وبالدين وبالفكرة الدينية، وتمّ تحديد عناصرها وأطوارها ومشكلاتها ورسالتها. أما بالنسبة للتجديد الحضاري فتمّ التركيز على مدلوله وأبعاده وشروطه وميادينه وموانعه. و”مالك بن نبي” مفكر وصاحب إستراتيجية يهدف من خلالها إلى إنقاذ أمته والأمم المتخلفة من الانحطاط والضياع، ويدفعها نحو التحضر الذي يتحقق متى تحققت شروطه في كل الظروف والأحوال .
يُعدّ “مالك بن نبي” ممن تأملوا ودرسوا وانتقدوا تاريخ الأمة العربية والإسلامية وأوضاعها الحديثة والمعاصرة، وجددوا أمر فكرها وفلسفتها، بما دعا إليه من تجديد للتصور الإسلامي دينيا وفكريا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا، اقترن اسمه بالحضارة وبمشكلاتها وبنظرية الحضارة وبإستراتيجية البناء الحضاري، أسهم في فلسفة الحضارة وفي فلسفة التاريخ وفي العلوم الإنسانية المعاصرة برمتها، ومنطلقه في ذلك الدين والفكرة الدينية، لم تشغله منتجات الحضارة الأوربية المعاصرة المغرية الفكرية والمادية عن البحث والاجتهاد، فهو صاحب كتاب “الظاهرة القرآنية” عرض فيه تفسيره العلمي للقرآن الكريم، أكدّ فيه الولاء للإسلام والانتماء للعلم في وجه الأفكار والتيارات العلمانية الجارفة، الأمر الذي جعل الشباب المسلم يقف محتارا بين الهداية والضلال، بين الاستقامة والانحراف في الفكر والمعتقد والسلوك .
جعل “مالك بن نبي” العقل الطاقة البشرية الكامنة المتحركة والمتحررة والمنتجة في عالم الأفكار وفي عالم الأشياء، في عالم الثقافة وفي عالم الحضارة، وهي طاقة متفجرة باستمرار ودوما بالفهوم والإبداعات والعطاءات، وهو ما انتهى إليه أصحاب كل حضارة من الحضارات التي عرفها تاريخ الإنسانية، ومنهم مؤسسو الحضارة الإسلامية الذين تأثروا وأربوا وأبدعوا وأثروا فتحضروا لما أخذوا بأسباب التحضر وهي المهمة والرسالة والأمانة الملقاة على عاتق المسلم المعاصر .
تعكس فلسفة “مالك بن نبي” في تعاطيها مع الدين والثقافة والعلم والسياسة والتاريخ والحضارة عامة تفتح عقل عربي إسلامي المعاصر على هموم ومشكلات عصره، وعلى قضايا الثقافة والحضارة والأصالة والمعاصرة والثبات والتغير، وهي مشكلات الأمة وقضايا الإنسانية جمعاء، عقل همّه الأكبر ومشكلته العويصة محاربة التخلف والانحطاط، والأخذ بأسباب التحضر والتقدم والبناء الحضاري، عقل مبدع صاحب دين وفكرة دينية، وصاحب علم ونظرية علمية، وصاحب تقنية وصاحب فكر وفلسفة، عقل يعتبره بعض المفكرين المعاصرين همزة وصل بين النهضة والصحوة في سياق تاريخي جمع بين الماضي والحاضر والمستقبل، صاحب نسق فكري متكامل في التعاطي مع مشكلات الحضارة دينيا وفكريا وثقافيا وعلميا واجتماعيا وماديا واقتصاديا .
ما أحوج العالم العربي والإسلامي إلى مشروع فكري نُهُوضي حضاري يضع بين يدي الأمة إستراتيجية البناء الحضاري التي تمكنه من بلوغ السمو الروحي، ومن ميلاد حضارة تلد منتجاتها الفكرية والمادية، وتضمن التوازن بين المثال والواقع، بين المادة والروح، بين الدين والدولة، ذلك هو عين التحضر وقمّته، وهو مبتغى الإسلام ومقصده، فالحضارة الحقّة هي التمكين لقيّم ومبادئ الإسلام على أرض الله.
1 – استراتيجية التجديد الحضاري واستمرار الأمة
لقد انتبه “مالك بن نبي” إلى المشكلات التي يعاني منها الإنسان في عصره، ولاحظ أن المشكلة الكبرى في حياة الإنسان هي مشكلة حضارية، فدعا إلى البحث في الحضارة لمعرفة شروط قيامها وعوامل انهيارها، وقام بهذه المهمة الشاقة فانكب على دراسة التاريخ الإنساني بشكل عام والتاريخ الإسلامي بشكل خاص، كما درس واقع الشعوب والأمم المعاصرة المتحضرة والمتخلفة مركزا على واقع الشعوب العربية والإسلامية ومسلطا الضوء على واقع الجزائر وتاريخها بشكل خاص، وقد ساعده في ذلك إسلامه وإيمانه بقضيته ورسالته وتكوينه العلمي، فكان يحلل الوقائع والأحداث الماضية والحاضرة ويستخلص النتائج، كما كان يضع الفرضيات ثم يستدل عليها بالشواهد التاريخية والواقعية وتحليلها بأسلوب علمي فيه الدقة والضبط والإحكام والموضوعية والصرامة العلمية والمنطقية .
إنّ العمل الذي قام به “مالك بن نبي” في حقل البحث تميّز بطابعه العلمي من جهة وبطابعه الفلسفي من جهة أخرى، فهو استطاع أن يضع نظرية في الحضارة ويقدم التجديد الحضاري في إستراتيجية لم يعرفها أحد قبله، إنّ نظريته في الحضارة تمثل إيداعا فكريا وفلسفيا وعلميا لا نظير له في عصرنا بما تميزت به هذه النظرية من دقة في طرح المشكلات وحصرها وعمق في التحليل وموضوعية في التصورات والتفسيرات وتنوع في المناهج والأساليب، فجاءت نظريته فلسفية وعلمية أخذت من الفلسفة القدرة على المشكلة والتحكم في التصورات والمفاهيم والقدرة على الاستشهاد وتبرير النتائج، وأخذت من العلم الدقة في الطرح والموضوعية في التحليل وانتهاج مختلف مناهج البحث العلمي وتميزت بحوثه بالنزاهة فلم يكن يطلب سوى الحقيقة لذاتها .
تعرّف “مالك بن نبي” على حركة الإصلاح والتجديد في عصره وانتقدها وبيّن ما لها وما عليها ولم يكن من ذوي التطرف في فكره في تعامله مع مختلف التيارات الفكرية في العالم الإسلامي، فكان همّه الوحيد هو الوصول إلى الحقيقة في حل مشكلة الحضارة، استطاع أن يضع نظرية هي بمثابة إستراتيجية شاملة تحدد أسباب قيام الحضارة وشروط البناء الحضاري كما بيّن عوامل ردّة النهضة وأسباب التخلف والانحطاط .
إستراتيجية التجديد الحضاري عند فيلسوف الحضارة “مالك بن نبي” تحددها جملة من المفاهيم تمثل معجمية فلسفة الحضارة عنده، وكان قد أطلع على فلسفة التاريخ في الفكر الخلدوني كما اطلع على فلسفة الحضارة والتاريخ في الفكر الحديث وعند أقطابها أمثال “توينبي” و”كارل ماركس” و”سبنجلر” وغيرهم، واستطاع بذلك أن يُلمّ بجوانب النقص وجوانب القوة في فلسفات هؤلاء وفي اتجاهاتهم .
تعرف “مالك بن نبي” على حركة الإصلاح والتجديد في عصره وانتقدها وبيّن مالها وما عليها، ولم يكن من أصحاب التطرف في فكره وفي تعامله مع مختلف التيارات الفكرية في العالم الإسلامي، فكان همّه الوحيد هو الوصول إلى الحقيقة في حل مشكلة الحضارة، استطاع أن يضع نظرية هي بمثابة إستراتيجية شاملة تحدد أسباب قيام الحضارة وشروط البناء الحضاري كما تبيّن عوامل ردّة النهضة وأسباب التخلف والانحطاط .
يختلف فلاسفة الحضارة عن “مالك بن نبي” في تفسيرهم للتاريخ في المنطلق والمنهج والمسار والمصب، حيث تعلق المنطلق بالذاتي والموضوعي معا، وتعلق المسار والمنهج بالروحي الديني والمادي الحسي معا، وتمثل المآل فيما هو دنيوي وأخـروي معا، هذا التصور غاب لدى كل من تفلسف حـول التاريخ وحول الحضارة قديما أو حديثا.
إنّ التجديد الحضاري ليس مرتبطا بأرض ما أو جنس ما أو لغة ما بل هو ظاهرة إنسانية تقوم حيث يعيش الإنسان وإذا غابت موانعها وتوفرت لوازمها وشروطها، هذه الظاهرة تتكون عندما يشرع الإنسان في تغيير ما بداخل نفسه ليغير ما في خارجها بعد ذلك، بحيث تتغير أفكاره وأخلاقه ومشاعره وعاداته وآماله وغاياته، فالظاهرة تنشأ عن تحول في حياة الإنسان النفسية ثم الاجتماعية بعد ذلك، وهي تقوم أساسا على تغير تصورات وفهوم الإنسان ونظراته إلى ذاته وإلى محيطه، كما يتصور المعنى من وجوده والرسالة الملقاة على عاتقه، وفي هذا الإطار يتصور المبادئ التي يتقيد بها والغايات التي يصبو إليها والوسائل والسبل التي تمكنه من ذلك في كل نشاط يقوم به، هذا التغير يكون أولا في المجال الفردي ثم يشق طريقه نحو المجال الاجتماعي.
ارتباط التجديد الحضاري بعامل التغيير يؤكده القرآن الكريم في الآية الكريمة: ﴿إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم﴾.[2] وهو مبدأ ينسجم مع السنن الكونية إذ لا يمكن لمجتمع أن يتغير نحو الاستواء ونحو الأفضل ما لم يتغير أفراده، ولا يتغير أفراده ما لم يبدأ هذا التغيير في نفس كل فرد الذي هو جزء من المجتمع، والمجتمع ليس هو مجرد حاصل جمع أفراد بل هو نظام وشبكة من العلاقات لا حصر لها ولا عد تمثل شبكة العلاقات الاجتماعية التي تتجلى في نسق اجتماعي قوانينه متماسكة في وحدة عضوية لا تقبل التفكك والانقسام، وتفككها يعني تفكك شبكة العلاقات الاجتماعية وبالتالي تفكك المجتمع .
إنّ عنصر التغيير الذي يحدث في نفس الفرد ثم يتحول إلى المجتمع يدل على العلاقة العضوية بين الفرد والمجتمع حتى أن بعض العلماء أرجعوا كل ما هو فردي إلى المجتمع واعتبروا الفرد مرآة عاكسة لكل ما هو اجتماعي، انتبه “مالك بن نبي” لهذه المسألة واعتبر الفرد عنصرا أساسيا وفعّالا في المجتمع، والمجتمع يؤثر تأثيرا كبيرا في أفراده في حالة نمائه وازدهاره وفي حالة فساده وانحطاطه، فالفرد “يدفع ضريبة عن اندماجه الاجتماعي إلى الطبيعة وإلى المجتمع، وكلـما كان المجتمع مختلا في نموه ارتفعت الضريبة”.[3] فالتغيير الذي يمثل جوهر التجديد الحضاري هو الذي يضمن التوازن بين الجانب الروحي والجانب المادي في الفرد كما يضمن التأثير المتبادل بين الفرد والمجتمع ضمن إطار تتحدد فيه حاجيات الفرد ومطالب المجتمع بعيدا عن الإفراط الأحادي في تلبية الحاجيات الفردية والاجتماعية .
للحضارة عمر وعمرها ثلاثة أطوار، طور الروح وطور الأوج أو العقل وطور الغريزة أو الأفول، تلك هي مراحل الدورة الحضارية في التاريخ والمجتمع الذي يعرف الحضارة يعيش ثلاثة مراحل هو الآخر، مرحلة ما قبل الحضارة ومرحلة الحضارة ومرحلة ما بعد الحضارة، هذا التصور نجده عند “ابن خلدون” لكنه يخص الدولة لا الحضارة مما جعل “مالك بن نبي” يعتبر المصطلح ضيق في نظرية “ابن خلدون” ولم يسمح لها بامتلاك الشمول والعموم الذي تتسم الحضارة، ويتسم به التاريخ، والتجديد الحضاري في مدلوله ووظيفته يتصل بإنسان الحضارة والتاريخ كما يتصل بإنسان المجتمع والتاريخ .
يمثل التجديد الحضاري في ارتباطه بإنسان المجتمع والتاريخ قوة فعّالة أساسها التغيير، تقوم هذه القوة بدفع الإنسان إلى الحركة داخل التاريخ ليبني الحضارة فينتقل الإنسان على أثر الدفعة الصادرة عن القوة من مرحلة ما قبل الحضارة إلى مرحلة الحضارة، يوجد فرق كبير بين إنسان ما قبل الحضارة والإنسان المتحضر، فالأول يعيش على الطبيعة في تصوراته وأخلاقه وسائر أعماله، تحركه حاجاته البيولوجية ومعطيات بيئته الجغرافية والبشرية التي تتميز بالبساطة لا التعقيد، وهو حال الإنسان في المجتمعات البدائية وحال العرب في الجاهلية، أما إنسان الحضارة يعيش على الطبيعة وعلى ما تبدعه عبقريته في الجانب الفكري والأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي، استطاع أن يسخر طاقاته لإضافة عالم جديد إلى عالم الطبيعة الموهوب بالفطرة، هو عالم الحضارة، وعندما يقف الشخص على قمّة جبل ينظر نحو الأسفل يرى المدينة بمبانيها وشوارعها والبحر في شمالها والسماء فوقها والجبال والغابات من حولها فهو يرى العالم الجديد عالم الحضارة الذي هو امتداد للطبيعة أضافه الإنسان إلى عالم الطبيعة .
يتضح مما سبق أن التجديد الحضاري هو إستراتيجية البناء الحضاري، والحضارات التي شهدها تاريخ الإنسانية هي تجسيد لهذه الإستراتيجية وتنفيذ لهذه الخطة الموسومة فيها والتي تحدد المبادئ والغايات كما تعيّن الوسائل والسبل انطلاقا من حركة تغيير مضبوطة وذات فعالية تسمح للإرادة الحضارية بالإقلاع في عملية البناء والتجديد وتحطيم كل ما يعيق التحضر ويمنع النهضة، ففي مرحلة ما قبل الحضارة يقوم التجديد الحضاري بعملية تجمع فيها سائر الشروط والعوامل النفسية والاجتماعية للانطلاق وبعد الانطلاق يواصل التجديد سيره لضمان أهداف وغايات حضارية تاريخية .
يبقى التغيير دوما يمثل جوهر التجديد في حياة أية أمة دخلت التاريخ وشرعت في البناء الحضاري، هذا البناء يحتاج إلى قوة ومتانة ليدوم ويستمر، وعامل الحصول على هذه القوة التي تضمن الاستمرار والدوام للحضارة هو تجديد الأفكار وتجديد الأشياء وتطوير سائر المنجزات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ففي كثير من الأحيان نجد شعوبا ضعيفة وتعاني مشكلة الجمود الفكري والركود الاجتماعي بسبب غرورها واعتقادها بأنها قد بلغت قمّة الرقي وذروة التحضر، فكلما أخذت الأمة بشروط وبعوامل التجديد كلما حافظت على منجزاتها الحضارية وكلما غابت فيها الفعالية انحدرت وفقدت قوتها واتجهت نحو الانحطاط والتدهور، هذه الحقائق تثبتها دروس التاريخ وفلسفة الحضارة، وكل الحضارات التي عرفتها الإنسانية القديمة والمعاصرة لا تفلت من هذا القانون .
إنّ مرحلة ما قبل التاريخ تشترط التجديد الحضاري لنقل الإنسان إلى عالم الحضارة، وفي مرحلة الحضارة يحتاج الإنسان إلى التجديد الحضاري لتقوية البناء الحضاري وتطويره وتحصينه والمحافظة على بقائه واستمراره لأن عوامل الفساد وأسباب الهرم كثيرا ما تدخل المجتمع لتنال منه ومن أفراده، والصراع بين قوى الخير وبين قوى الشر أي بين قوى البناء وقوى الهدم طبيعي في البشر وفي المجتمع، وفي حالة تغلب معاول الهدم على شروط البناء يضعف المجتمع وينتكس ويتراجع بسبب انتشار الفساد فيه اختلال، نظمه وتفكك شبكة العلاقات الاجتماعية فلم تعد القيمة الثقافية خلقية في جوهرها و تعود في أصلها إلى عامل روحي، بل نسجل انفصال هذه القيّم عن بعضها البعض وانصراف الناس عن القيّم العليا للانشغال بالقيّم الحيوية التي تزكي الشهوات والغرائز ولا تعير أدنى عناية بمكارم الأخلاق .
أمام هذه الحالة من الفساد تقوم الحاجة الماسة إلى التجديد الحضاري باعتباره إستراتيجية يحددها المجتمع حسب معطياته ومطالبه تمثل منهج إصلاح وأسلوب إعادة البناء، هذه الإستراتيجية تأخذ في الاهتمام الجانب الفردي والجانب الاجتماعي، خصوصيات المجتمع التاريخية والفكرية والروحية والطبيعية والاقتصادية عند تحديد مبادئ وشروط الإصلاح ووسائل وأساليب إعادة البناء وهو أمر يسمح للمجتمع بنهضة إصلاحية شاملة يكون الدور فيها لحركة التجديد الحضاري، فشعوب أوروبا في العصر الحديث عرفت نهضة علمية وتقنية رائدة انبثقت عنها الحضارة الأوربية .
هذه النهضة قامت على إصلاح مختلف الأوضاع وتجديد الأفكار والأشياء وكان ذلك وفق خطة عناصرها ومراحلها ومبادئها وغاياتها متكاملة، وإصلاح النفوس والعقيدة والتربية والتعليم في العالم الإسلامي الحديث هو هدف الحركة الإصلاحية، وكل ذلك يدخل ضمن خطة إصلاحية تحارب المفاسد وتطلب الجديد وتسعى إلى إعادة الأمة إلى مكانتها في التاريخ وفي رحاب الحضارة والمدنية .
قد يعتمد أفراد الأمة المتحضرة التي شهدت اختلال في حياتها الفكرية والاجتماعية أو تلك التي انهارت حضارتها على أسلوب الإحياء والبعث ،إحياء تراث الأولين وأمجادهم، وفي هذه الحالة تحتاج الغاية إلى منهج وأسلوب يتماشى مع خصوصيات الأمة ومع أوضاعها القائمة وظروفها المعاشة من جهة ومع المحيط الذي يعيش فيه وتعيش فيه الأمم الأخرى لها تأثير مباشر أو غير مباشر على هذه الأمة صاحبة البعث والإحياء .
إنّ منهج العملية ومبادئها ووسائلها وغاياتها تحددها استراتيجية هي إستراتيجية التجديد الحضاري، ونجاح الأمة أو فشلها في عملية البعث والإحياء مرهون بطبيعة إستراتيجية التجديد الحضاري من جهة وبمدى قدرة الأمة على تنفيذ خطة تلك الإستراتيجية، توجد أمم اعتمدت إستراتيجية وضعتها في حالة انغلاق وتقوقع فازدادت انعزالا وتخلفا أمام الصراع والتقدم الحضاريين، وأخرى فقدت هويتها لأنها انغمست في ما ليس لها، وأخرى نجحت إلى حد كبير في محاولة التوفيق بين تراثها وتطورات عصرها وأخرى لازالت تحاول وهي تنجح تارة وتفشل تارة أخرى .
إنّ كل تجديد حضاري في أي مجتمع وفي أي مرحلة من مراحل التاريخ هو إستراتيجية تغير أوضاع وظروف الفرد النفسية والاجتماعية نحو الأفضل وبما يضمن تطوير تفكيره وسلوكه وأعماله وتطوير كل ما يتصل بالأعمال من وسائل وطرق ونتائج، هذه الإستراتيجية تربط بين المبادئ والغايات ضمن نظرة شاملة وخطة عامة يتبناها المجتمع ويحرص على تنفيذها، هذه الخطة ذات أبعاد كثيرة ومختلفة ومتداخلة وهي إنسانية، تاريخية ، اجتماعية ، أخلاقية ، جمالية ودينية روحية، ولها شروط هي شروط كل نهضة وعوامل بناء الحضارة وتجديد منجزاتها، ويظهر التجديد الحضاري في منتجات الحضارة التي يعرفها ميدان الفكر والثقافة وميدان الاقتصاد، ففي ميدان الثقافة نجد التجديد الحضاري في الحضارة المعاصرة قد فجّر تقدما كبيرا في المجال العلمي من حيث المناهج والوسائل والنتائج وفي المجال الاقتصادي نشاهد تطور ملحوظا في وسائل العمل وأساليبه وتقنيته ناهيك عن التطور المدهش الذي عرفته وسائل النقل والاتصال .
إنّ دور التجديد الحضاري تحدده مراحل المجتمع المتحضر كما يحدده عمر الحضارة ومن خلال أطوارها الثلاثة، ففي مرحلة ما قبل الحضارة يقوم بتوفير الشروط اللازمة للبناء الحضاري إذ ينقل الفرد والمجتمع من مرحلة اللاحضارة إلى مرحلة الحضارة وخلال مرحلة الحضارة يقوم بتطوير الحضارة في الجانب الفكري والاقتصادي ضمانا لاستقرارها واستمرارها، واستمرار الحضارة يعني استمرار الأمة المتحضرة، كما يقوم التجديد الحضاري بعلاج الوضع الناتج عن اختلال الحضارة أو انهيارها وأفولها .
حركة الإصلاح والتجديد التي شهدها العالم الإسلامي في العصر الحديث وفي أيامنا هي محاولات للتجدد الحضاري قام بها العديد من المفكرين “كجمال الدين الأفغاني” و”محمد عبده” و”ابن باديس” وغيرهم لإصلاح النفوس من الجهل والأوهام والخرافات وتنقية العقول من الأوثان وإصلاح العقيدة وإزالة الاستعمار والقابلية للاستعمار، وكان “مالك بن نبي” واحدا من هؤلاء الذين نالوا شرف القيام بهذه المهمة النبيلة التي لا تؤتى لأي أحد .
كان “مالك بن نبي” صاحب كلمة طيبة حرة هي عنده أمانة ومسؤوليـة، كان صاحب فكرة بناءة هي درّة وجوهرة، وكان فيلسوفا ومصلحا مبدعا، لقد قال فيه الأستاذ راشد الغنوشي: “مدرسة في الفكر الإسلامي الحديث لم ينصب فكره على النص الإسلامي وإنما على مناط تطبيقه على المجتمع من أجل إعادة بناء الحقيقة الموضوعية في نظر العقل المسلم بالكشف عن سنن البناء الحضاري وتطوره في اتجاه القوة والضعف”. (4)
2 – الفكر الإصلاحي عند مالك بن نبي في الميزان
استوحى “مالك بن نبي” نظرية الحضارة وطبيعة التجديد الحضاري وإستراتيجية البناء الحضاري من دراسته لواقع العالم الإسلامي في عصره الذي تميز بالضعف الديني والانحطاط الفكري والتخلف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، والذي شهد ظاهرة الاستعمار بمختلف أشكاله و توابعها، ومن ورائها ظاهرة “القابلية للاستعمار”، ومن دراسته لتاريخ الفكر البشري بصفة عامة وتاريخ الفكر الإسلامي بصفة خاصة وللتاريخ الإسلامي، هذا التاريخ الذي شهد حضارة فريدة في نوعها شهدت أفولها بانتهاء عهد الموحدين، وكان للفكر الغربي وللحضارة الأوروبية تأثير كبير في إنتاج “مالك بن نبي” الفكري ونظرته إلي الإصلاح وإلى التجديد، كانت هذه هي المصادر التي انبثقت منها نظريـة فيلسـوف الحضـارة والتاريخ “مالك بن نبي”، وتحديده لطبيعة التجديد الحضاري الذي هو أساس كل فعل لبناء الإنسان والحضارة والتاريخ .
تقوم فلسفة الإصلاح والتجديد عند “مالك بن نبي” على أنّ مشكلة كل شعب من الشعوب أو أمة من الأمم هي مشكلة حضارة لا غير، هناك الأمة المتحضرة التي تنعم بالسمو الروحي والأخلاقي، والتطور الفكري والعلمي، والازدهار والنماء الاقتصادي، والانسجام والتناسق الاجتماعي، ينال فيها كل فرد مطالبه وحاجاته كما يقوم بواجباته وما عليه نحو مجتمعه، وهناك تجمع إنساني يفتقر تماما إلي عناصر الحضارة ومعالمها، تسوده الهمجية والفوضى والتوتر، فيه يأكـل القـوي الضعيف، ويحكمه “قانون الغاب”، والعالم الإسلامي شهد حضارة راقية بلغت أوجها وأسدل عليها الستار بعد عهد الموحدين، وهو يعيش حاليا في التخلف والانحطاط في مختلف جوانب الحياة، أما العالم القوي الحديث فيحيا حضارة راقية في منتجاتها العلمية والفكرية والتكنولوجية، أثرّت على حياة المسلمين والشعوب المتخلفة الأخرى، طبعتها بطابعها على الرغم من كونها تنطوي على أشياء تتعارض مع القيم والانتماءات الذاتية للشعوب المتخلفة، وخاصة الشعوب الإسلامية .
مادامت المشكلة الجوهرية في حياة أي شعب من الشعوب هي مشكلة حضارته، فإن حل تلك المشكلة يرتبط أساسا بدراسة الحضارة ذاتها نظريا وتاريخيا وواقعيا وتحديد عوامل تكوينها وبناءها، وأسباب ازدهارها وتطويرها ودواعي انهيارها وأفولها، وفي غياب هذه الدراسة وجهل هذه العوامل والأسباب والدواعي لا يمكن بأي حال من الأحوال لهذا الشعب أو ذاك أن ينتقل من حالة لا حضارة إلى الحضارة، فالبداوة المتوحشة، والتجمع الشبه حيواني، والانشغال بالحاجات البيولوجية، والتناحر والاقتتال بين أفراد الجماعة البشرية على الشرب والمأكل والأمن، كلها عوامل لا تسمح بامتلاك عوامل البناء التاريخي وعناصر وشروط التحضر .
إنّ استيعاب الإنسان للحضارة والتجديد الحضاري وإلمامه بعوامل التغيير التاريخي والبناء الحضاري وإحاطته بدواعي الازدهار الروحي والمادي وامتلاكه لشروط التوافق الاجتماعي وإدراكه لأسباب انهيار الحضارات وأفولها، كل هذا يدفع به إلى مغادرة مرحلة اللاحضارة، وهي مرحلة التوحش و الهمجية وحكم “قانون الغاب” إلى مرحلة الحضارة، أو طور الروح حيث ينعتق الإنسان من سيطرة الغرائز ويتحرر من قيود التوحش، فيسيطر الفكر والعلم والأخلاق، ويتحقق السمو الروحي والفكري والأخلاقي، ويكتمل في مرحلة الأوج أو طور الرقي، والرفاه المادي الذي يعيد للغريزة هيمنتها شيئا فشيئا إلى أن تبلغ شأوها فتزيل من أمامها أثر الروح والأخلاق والقيم، فيعلن عن وفاة الحضارة و ميلاد الانحطاط والتخلف وعودة الإنسان إلى مرحلة اللاحضارة، على أساس أن هناك ثلاثـة أطوار في حياة الأمة التي تعرف الحضارة: طور ما قبل الحضارة، وطور الحضارة، وطور ما بعد الحضارة .
كل حضارة هي تركيب بين عناصر ثلاثة هي الإنسان والتراب والوقت، والعنصر المركب بين هذه العناصر الثلاثة هو الدين أو الفكرة الدينية، فالإنسان باعتباره خليفة الله في الأرض كرّمه الله بقوى كبيرة فكرية وحسية، بها يستطيع أن يغيّر واقعه و يسخره لضمان مراميه وتحقيق مطالبه المختلفة، فهو كائن ليس كبقية المخلوقات الأخرى له من القوة ما يجعله سيد الوجود، ويحتل القمة في هرم الكائنات، أما التراب فهو المادة التي تخضع للتكييف البشري، وتسخر لراحة الإنسان وخدمة مصالحه، أما الوقت فهو ذو طابع تاريخي اجتماعي حضاري، خلاله يتم العمل الفكري واليدوي وخلاله يحصل تكييف الواقع الطبيعي وتسخيره وتحويله من صورة غير نافعة إلى أخرى نافعة، وذلك هو عين التجديد الحضاري .
إنّ عُدة الحضارة الدائمة ـ الإنسان ، التراب ، الوقت ـ ملك الإنسانية جمعاء، لا تجتمع وتتآلف إلاّ بتدخل الفكرة الدينية التي تصنع الوحدة والتكتل والانسجام بين عناصر الحضارة، وهذا لا يحصل إلاّ بالإيمان القوي في النفس، لأنّه قد تتوفر العدة الدائمة والفكرة الدينية ولا يحصل التحول التاريخي لغياب اكتمال شروط التغيير، وغياب التحول في أعماق النفوس، وغياب التطبيق الفعلي للقاعدة القرآنية الواردة في الآية : ﴿إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم﴾.(5) فالشرط الأول في عملية التغيير المطلوب لأي حركة أو فعل نحو التحضر هو تغيير عالم النفس بإزالة كل ما فيها من اعوجاج وأمراض وفساد في التصورات والمفاهيم، وما فيها من جهل الأمور وغموض في الأفهام، وتنويرها بالحقيقة، وتهذيبها على مكارم الأخلاق، وتحفيزها على الأخذ بالإيمان الصادق و العمل الدءوب والعلم النافع، فتمكين النفس من هذا المطلب هو أصل التجديد الحضاري، لينعكس فيما بعد في الواقع الاجتماعي والطبيعي، حيث يتجسد في منتجات حضارية دينية، فكرية، أخلاقية، علمية، وتكنولوجية .
تعرّض الفكر الإصلاحي عند “مالك بن نبي” كغيره إلى انتقادات عديدة من قبل النقاد والباحثين في مرجعيته وفي معالمه، وحتى في أهدافه، ومن المعالم التي نالها الانتقاد نظرية الحضارة والظروف التي أوحت بها، فهي نظرية ذات طابع شمولي في عناصرها ومبادئها وأهدافها، ذلك ما أراده صاحبها الذي خطّ لها انطلاقا من ظروف تاريخية واجتماعية وفكرية ارتبطت بالعالم الإسلامي المتخلف، وبالعالم الأوروبي المتحضر، وما تميّز به الأوربي صاحب حضارة وقوة واستعمار، وما تميّز به المسلم من تخلف وانحطاط وضعف وقابلية للاستعمار، بحيث يرى البعض أنّ “مالك بن نبي” وقع فيما وقع فيه “ابن خلدون”، حيث استخلص قوانين من واقع وتاريخ العرب والمسلمين وراح يعممها على كافة الشعوب والفترات التاريخية، ويظهر تأثره “بابن خلدون” في تحديده لأعمار الحضارة وأطوارها فهو لم يفعل شيئا سوى أنّه استبدل كلمة الدولة في الفكر الخلدوني بالحضارة في نظريته، رغم انتقاده “لابن خلدون” في هذه المسألة. ما يعاب على فكر “مالك بن نبي” وصفه للمرض الذي يعاني منه المسلمون في انحطاطهم وتخلفهم، تحديدهُ لوصفة الدواء والعلاج هذا من جهة، ومن جهة أخرى وصفه للقوة التي تميّزت بها الحضارة الغربية و تميّز بها الفكر الغربي، و تحديده لدواعي تلك القوة ومرجعيتها، فالتخلف يعود إلى ما يعود إليه الاستعمار ومن وراء الاستعمار القابلية للاستعمار التي تميزت بها الشعوب الإسلامية، ولمواجهة هذه الظاهرة راح يقبل بكل الحلول في “مؤتمر باندونغ” فكتب حوله كتابه “الفكرة الإفريقية الأسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ”، مؤمنا بأنّ اللقاء الأفروآسيوي سبيل لتصفية الاستعمار والقابلية للاستعمار، وطريق إلى حضارة جديدة تضاهي الحضارة الغربية وتبزها، وأهمل التباين بين شعوب آسيا والشعوب الإسلامية : “كيف يمكن للمسلم ـ إذن ـ أن يستلهم التراث الهندوسي مع وجود هذه الفروق الأساسية في النظرة إلى بعض مجلات الكون والحياة والإنسان”.(6) ويرجع فشل نظرية “شاخت” في تطور وتنظيم اقتصاد إندونيسيا رغم نجاحها في تطـور اقتصاد ألمانيا إلى المعادلة الإنسانية. “وتحديد المعادلة الإنسانية للإنسان الأفروآسيـوي فيبين أنها تحتوي على عدم إحساس بالزمن”.(7)
إنّ المركب بين أجزاء المعادلة الإنسانية هو الدين هذا ما يؤكده تاريخ الحضارات عند “مالك بن نبي”، فالحضارة المسيحية وليدة تركيب بين الإنسان والتراب والوقت وكان ذلك بفعل الروح المسيحية و قيّمها التي خلقت في نفوس المسيحيين أسباب التغير والتحول، فكان ما كان من الانفجار الفكري والعلمي والتكنولوجي، فصنع الانفجار حضارة عالمية امتدت في المكان امتدادا لا نظير له في حضارات سابقة، فتمردت عن قانون “الدورات التاريخية” كما كانت في عصر”ابن خلدون” ، في حين أن واقع الشعوب الأوروبية التي تحضرت حديثا يؤكد أن الحضارة الغربية شهدت انعدام ظاهرة الروح في البناء الحضاري الأوروبي الغربي الحديث، و”ليس من شك أن أزمة الروح في مختلف أبعاد الحضارة الغربية انعكاس لأزمتها عند الفرد ومحصلة لانعدامها في الذات. فيجب أن تنطلق المعالجة الحقيقية لأزمة الروح والأخلاق في الحضارة في ذات الإنسان من داخله، من جذوره، لذا نؤكد بأنه لا يتم ترميم حضارة بإلصاق الروح في جسمها من خلال مواضعات سياسية معينة، وإذا سلمنا بنجاح هذا الترميم فأمده محدود، ويستمر الدور ـ خلال فترة الإلصاق و بعدها ـ في نخر الجسم حتى تأتي عليه”.[8] إلى جانب الانتقاد الذي وجه إلى فكر “مالك بن نبي” حول رأيه في “مؤتمر باندونغ” وفي “فكرة كومنولث إسلامي” وفي مشاريع الجمهورية العربية المتحدة الهادفة إلى بنـاء حضـارة ومدحـه لإرادة » جمال عبد الناصر «الحديدية وقبوله بسياسة الحكومة الجزائرية بعد الاستقلال وغيرها من الأفكار الأخرى، نجده يُنتقد في حلّه لمشكلة المفاهيم في الجزائر، فعنده معالجة المفهومية تكون بالشكل الآتي :
ـ ميثاق طرابلس + اشتراكية (محدود بالعروبة والإسلام) + إصلاح زراعي+ تصنيع مقبل = حل مشكلة الفراغ المفاهيمي. لكن هل تستطيع هذه المعادلة أن تحل مشكلة الفراغ المفاهيمي؟،هل تستطيع أن تحل مشكلة الفردية ؟، هل يمكن أن تذكي النشاط الفردي، أن تشعله، أن تؤججه ؟ هل يمكن أن تزيل ظاهرة الذرذرة من المجتمع ؟، هل يمكن أن تخلق إنسانا مشروطا ضابطا لذاته وغرائزه ؟، هل يمكن أن توفق بين النشاط الفردي والنشاط المجموعي تنسق بينهما، وتراعي تربة الواقع الجزائري ؟، الجواب بكل بساطة : لا. لأن مشكلة الفراغ المفاهيمي كما بينها مالك مشكلة فردية تنبع من ذات الإنسان، من كيانه، من روحه، من داخل رأسه”.(9)
من نتائج الفكر الإصلاحي عند “مالك بن نبي” ويعدّه البعض من الأخطاء الفكرية التي وقع فيها ونتج عن معامل القابلية للاستعمار إعطاؤه للتراب قيمة زائدة عن حدوده، ومعادلته: إنسان + تراب + وقت =حضارة. والحضارة الغربية تستغل التراب أحسن استغلال وتستثمر الوقت أحسن استثمار لكنها أوجدت أضرارا ومهالك للإنسان لم تشهدها البشرية من قبـل واستغلال الإنسان ـ وهو مقياس الحضارة ـ للتراب والوقت لا ينتج بالضرورة حضارة بل قد ينتج دمارا وخرابا وتصدق المعادلة :
إنسان + تراب + وقت = دمار. والوضع الصحيح للمعادلة هو: إنسان متوازن = حضارة”.(10)
إنّ الفكر الإصلاحي عند “مالك بن نبي” في نظر الباحثين فكر تبريري وترميمي وليس فكرا يوجد ويصنع “المجتمع المسلم على أنقاض الواقع الفاسد من خلال الأساليب التي قدمها الرسول صلى الله عليه وسلم مع صحابته في بناء المجتمع الإسلامي الأول”. (11) فهو فكر ينطلق في إصلاح الواقع الفاسد من إصلاح الأطر وهي متنوعة، لا من إصلاح الإنسان في ذاته وفي جوهره و من داخله، “فانبثاق حضارة جديدة يتم من خلال إطار مؤتمر باندونغ، وإعادة الفعالية الاجتماعية للمسلم من خلال إطار الكومنولث، وحل مشكلة الحضارة في مصر من خلال إطار المصانع والمؤسسات، وحل المشكلة المفاهيمية في الجزائر من خلال ميثاق طرابلس والإصلاح الزراعي، والاشتراكي المحدودة … ليس من شك أن هذه النظرية خاطئة، فتطوير الأزهر والبرامج، وإصلاح المساجد والمحاكم، وتشكيل الجمعيات وعقد المؤتمرات، وإنشاء الكومنولث الخ … كل هذه الأطر تلمس خارج الإنسان، ظاهره، ولا تمس جوهره، داخله، وهي إن نجحت في التغيير فذات أمد و أثر محدودين”.(12)
ما لقيه فكر “مالك بن نبي” الإصلاحي من انتقادات ومآخذ يدخل في إطار الثراء الفكري والغنى الثقافي، فهو يشكّل بحق فلسفة تستحق البحث والدراسة والنقد التقويم إغناء لها وإثراء للفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، ولا يحط من كون “مالك بن نبي” فيلسوف الحضارة والتاريخ، استطاع أن يقدم نظرية في الحضارة، ورؤية جديدة إلى التاريخ، هذه الرؤية التي افتقدها المصلحون الذين سبقوه أو عاصروه، رؤية التقت فيها الأفكار بعد تباين، واجتمعت الرؤى بعد اختلاف، فيها تحددت عناصر وشروط التجديد الحضاري وبناء الحضارة من خلال فكر جمع بين قوة الإسلام وسماحته وقوة التاريخ و تجارب الإنسان فيه و قوة الحضارة الغربية العلمية والتكنولوجية، الأمر الذي جعل هذا الفكر منهجا وسنة لمن أراد أن يدخل التاريخ ويصنع التقدم، ولما فيه من أصالة و تجديد .
3 – مكانة مالك بن نبي في الحركة الإصلاحية في العالم الإسلامي المعاصر
إنّ وزن المفكر أو الفيلسوف بين المفكرين والفلاسفة يصنعه فكره وتحدده فلسفته، و”مالك بن نبي” واحد من المفكرين والفلاسفة ذكرته نظريته في الحضارة، صنع مكانته فكره الإصلاحي المتميز، فتألق نجمه في سماء الحركة الإصلاحية التجديدية في العالم الإسلامي المعاصر، وذاع صيته خارج العالم الإسلامي، وصار واحدا من كبار قادة الفكر ورواد الفلسفة، في عصرنا هذا.، اعتنى بفكره وفلسفته العديد من الباحثين، بعضهم يدرس ويحلل ويدافع، وبعضهم ينقد ويقوّم، وأهمية هذا الفكر وهذه الفلسفة والعناية بها والوقوف عليها بالتحليل والتقويم كل هذا يعود إلى كونه فكرا اعتنى بقضية الحضارة، ومسألة البناء التاريخي، وهي قضية تهم كل فرد وتهم كل مجتمع وكل أمة وتهم الإنسانية جمعاء، خاصة وأنّ الحضارة بالمعنى الحديث والمعاصر تعني التقدم والازدهار في المجال الاجتماعي والاقتصادي، كما تعني السمو الأخلاقي، والتقدم العلمي والتكنولوجي، وتقابلها– ليس البداوة- ظاهرة التخلف وتعني الانحطاط الاجتماعي والضعف الأخلاقي والتدهور الفكري والفساد والفوضى، وكل ما يسيء إلى حياة الإنسان كفرد وكمجتمع. والإنسان يطمح باستمرار إلى الأفضل في الفكر والعمل والحياة عامة.، فهو ينفر من التخلف، ويطلب الحضارة والتقدم، وبما أنّ “مالك بن ني” تفلسف حول الحضارة وشروطها وعناصرها وموانعها وعوامل انهيارها، وحول التخلف وأسبابه وموانعه فاستهوى ذلك المثقف والمفكر والباحث، وجاءت أهمية العناية بهذا الفكر في قضية البناء الحضاري والتاريخي بشكل عام.
ارتبطت نظرية الحضارة، وفلسفة الإصلاح، وفكرة التجديد الحضاري عند “مالك بن نبي” بالإسلام باعتباره المصدر الأعلى والوحي الأسمى، وكلمة الحق، والقانون الأبدي الخالد في التوجيه والتدبير في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية والأممية العالمية، ارتبطت بالتاريخ الإسلامي والفكر الإسلامي برمته وعلى رأسه فكر “ابن خلدون” والحركة الفكرية الإصلاحية الحديثة بزعامة “جمال الدين الأفغاني” و”محمد عبده” وغيرهما، وكان للحضارة الغربية ومنتجاتها والفكر الغربي واتجاهاته تأثير واضح على محاولة “مالك بن نبي” الإصلاحية، هذه المحاولة العلمية التي تميزت بالجّد والجدّة، سواء فيما يتعلق بمجال المتابعة والمراجعة والتقويم لمسار حركة البناء التاريخي الحضاري للأمة، أو فيما يتعلق بمحاولة التغيير والتجديد الحضاريين، وهي محاولة يعدها العديد من الباحثين ويعتبرها الكثير من المفكرين الكبار ناجحة، استطاعت أن تضع الإطار السليم والقويم لمسألة البناء الحضاري، وأن تحدد العديد من لوازمها وأدواتها، وأن تعي كل ذلك ويظهر في نسق فكري تميّز بالجدة والأصالة، وهي محاولة لم يستطع الوصول إليها مفكرون آخرون في عصره، فكانت حقّا فريدة في نوعها، وذات طابع خاص ومتميز. استطاعت هذه المحاولة أن تُلبي مطالب البحث والدراسة في نقد وتقويم حركة النهضة الإسلامية الحديثة، وتميز هذا النقد وتميّزت المراجعة بالموضوعية والجرأة، ساعد ذلك على كشف النقائص ومعرفة نقاط القوة، كما ساعد على رسم خطة الإصلاح والتجديد، بل استطاع صاحبها أن يبني فلسفة ذات نسقية وتكامل في عناصرها، فهو صاحب رؤية فلسفية للتاريخ والحضارة والإنسان تختلف عن الرؤية الخلدونية وعن رؤيا كثيرة لفلاسفة غربيين محدثين أمثال “توينبي” و”فيكو” و”سبنجلر” وغيرهم، فهو بحق فيلسوف الحضارة و التاريخ في عصرنا هذا .
إنّ نظرية الحضارة و التجديد الحضاري عند “مالك بن نبي” من إنتاج موهبة قويّة وشخصية فذّة صنعتها أحداث وظروف تاريخية فكرية واجتماعية تمثلت في إيمان صاحبها القويّ بربه وبدينيه وبرسالته و بواجبه نحو أمته، فوهب حياته لها واستنفذ كل ما يملك من طاقة في سبيل الكلمة الصادقة، والفكرة النيرّة الحرّة، وفي سبيل السعي إلى إنقاذ الأمة من الفساد وإخراجها من عالم الجهل والتخلف والانحطاط والاستعمار والقابلية للاستعمار، فنال واقع المسلمين المزري لما تميّز به من تدهور في جميع المجلات كل العناية بالبحث والفحص والتمحيص من طرفه، مشخصا المرض ومحددا أساليب الوقاية وكيفيات العلاج، فكان الطبيب الناصح، خاصة وأنّ الاستعمار الغربي لم يكن عسكريا فحسب، بل حمل معه فكرا وروحا غربية وقيمّا دينيه و فكرية تزيد في إبعاد الأمة الإسلامية عن هويتها وقيّمها، وتزيد في تشويه الإسلام والتاريخ الإسلامي وتراث المسلمين، انتقاما من جهة، وحبّا في التوسع والهيمنة الفكرية و الثقافية بعد الهيمنة العسكرية والاقتصادية من جهة ثانية، لذا تصدى “مالك بن نبي” للاستعمار الغربي وللفكر الغربي، بفكره وقلمه، وانتقده، سواء تعلق الأمر بفلسفات الحضارة والتاريخ في العصر الحديث أو بالنسبة للتيارات الفكرية والسياسية والاقتصادية، مثل الفكر اللّيبرالي والفكر الاشتراكي والفكر الإلحادي وغيرها، ولم يرفض التأثر والاقتباس من الفكر الغربي، ولم يعرض عن استعمال منتجات الحضارة الغربية، لكن في إطار أسلوب ومنهج وفكر يسمح بامتلاك شروط التحضر ويمنع الانغماس والتبعية في الغرب ، ويرفض المديونية الحضارية، لقد شيّد “مالك بن نبي” منظومة فكرية حضارية حدد فيها بدقة وانطلاقا من الدين التاريخ والواقع طبيعة التخلف، وعوامله وموانعه من جهة كما حدد عوامل وشروط وعناصر التحضر والبناء التاريخي، وبيّن أسباب التراجع الحضاري ودواعي انهيار الحضارات وأفولها من جهة أخرى، فكانت فلسفته الإصلاحية فعلاً هادفا فاعلا على طريق الوصول إلى وعي تام بالتحضر وبكل ما يتعلق بالحضارة ويتصل بها، وعـي نابـع مـن الذات الإسلامية ومقوماتها ويستثمر ما للغير من جديد، وهي صورة حيّة تعكس قضايا الأمة العربية والإسلامية الفكرية والثقافية، وتطلعات العالم الإسلامي ومفكريه الحضارية، وهي مساهمة جادّة في حل مشكلات الأمة الحضارية في إطار قيّمها الدينية وخصائصها التاريخية.
ومكانة “مالك بن نبي” وقيمة منهجه في البحث والطرح والمعالجة وفي المراجعة والنقد والتقويم ووزن فلسفته الإصلاحية ودور فكره وأهمية التجديد الحضاري عنده كل ذلك تبلور في موافق المفكرين والباحثين الذين عاصروه أو قرءوا له، فهذا هو يقول عن نفسه : “كان مولدي في الجزائر عام 1905، أي في زمن كان يمكن فيه الاتصال بالماضي عن طريق آخر من بقي حيّا من شهوده، والإطلال على المستقبل عبر الأوائل من رواده. هكذا إذن فقد استفدت بامتياز لا غنى عنه لشاهد، حينما ولدت في تلك الفتـرة”.[13] ويقول كذلك عن واجبه وعن رسالته نحو أمته: “إنني حضرت إلى القاهرة للقيام بواجبين: أحدهما يخص مهمتي كاتبا يريد نشر كتاب “الفكرة الإفريقية الأسيوية” وقد يدلكم عنوانه على صلته بالقضية الجزائرية، سواء اعتبرناها من الناحية الداخلية “توجيهات تخص الكفاح” أو من الناحية الخارجية “كنشر هذه القضية في المجال الدولي”… وأما الواجب الثاني الذي حضرت من أجله إلى القاهرة، فهو يتعلق بشخصي بصفتي جزائريا أسهم في الكفاح ضد الاستعمار منذ ربع قرن، ويأتي الآن كي يواصل هذا الكفاح تحت راية الثورة الجزائرية”.[14] ويقول في كونه مصلحا: “كنت أعيش بباريس وأحمل بها وحدي لواء الإصلاح في وجه العواصف والأعاصير التي كان يثيرها الاستعمار على خصومه”.(15)
يذكر العديد من المفكرين فكر وفلسفة ومنهج “مالك بن نبي” وينعتون ذلك بالقوة والمتانة والدقة واليقين، وهذا “الأستاذ راشد الغنوشي” يعتبر مالك بن نبي” “مدرسة في الفكر الإسلامي الحديث، لم ينصب فكره على النص الإسلامي، وإنّما على مناط تطبيقه على المجتمع من إعادة بناء الحقيقة الموضوعية في نظر العقل السلم، بالكشف عن سنن البناء الحضاري وتطوره في اتجاه القوة والضعف… فمالك يرى أن الحضارة ليست نظرية في الفلسفة وفي المعرفة عامة مهما كانت جميلة ومتناسقة حتى ولو كان الإسلام ذاته، وإنما الحضارة إنجاز في عالم الزمان والمكان، ثمة تفاعل فكرة مع واقع بحسب شروط موضوعية لا تتخلف”.(16)
يصف شخصية “مالك بن نبي” وخصاله أحد تلاميذه المقربين “الأستاذ عمّار طالبي” وقد اتسم فيما يرى التلميذ أستاذه “بفكر حاد، و ذهن نفاد يعاني و يفكر ففكره فكر حي، فعال مركز، تغلب عليه الصور العقلية، لا الصور اللّفظية، فيما يتكلم و فيما يكتب. يشعر في أعماقه بأن له رسالة وبالرغم من الصعاب التي واجهته في حياته الشاقة، فإنه لم يتزلزل في يوم، ولم يشعر بأن عليه أن يترك رسالته، و يلقي بعبئها، وشخصيته شخصية أخلاقية ملتزمة بالأخلاقية الإسلامية الصافية، ذو أصالة وهمّة عالية، و أنفه شامخة، عوده لا يلين في الحق، و قلبه لا يخشى فيه لومة لائم، و لعل تكونيه الرياضي والعلمي وسمه بالوضوح، لا لبس فيه، وذلك في يقيني ما أصّل فيه فضائله العقلية ورسّخ ميزاته الأخلاقية”.(17)
تألّق نجم “مالك بن نبي” في فضاء فلسفة الحضارة فـي عصرنا الحاضر، و”طرح أفكارا أو فرضيات كثيرة في غاية الأهمية، لكن الثقافة الفقهية والوعظية والمنهجية الآلية أو الحرفية في التعامل مع الوحي والواقع والتراث والمستقبل …همشّت هذه الأفكار الجنينية الهامة وحرمتها من النمو الطبيعي، واستكمال نضجها، وإفادة الأمة بها، في وقت هي أشد ما تكون احتياجا إليها. وبهذا وقع له مثلما وقع لابن خلدون قبله عندما لفّه ليل الانحطاط الحضاري، ولم تمكن ظروف الأمة أفكاره الجديدة من النمو والتبلور والنضج والتمثل في واقع الأمة. وللعلماء الاجتماعيين المسلمين مسؤولية كبيرة في ربط حلقات هذه المدرسة الحضارية، ومواصلة تأكيد حضورها، وتحويلها إلى محور ارتكاز أساسي في المنظومة الثقافية للحركة الإسلامية والأمة عامة، باعتبارها المصب الحتمي لبقية الروافد الفكرية الأخرى في عملية البناء الحضاري”.(18)
يذكر خصاله العديد من الباحثين والمفكرين، فهو عندهم “ليس كاتبا محترفا، أو عاملا في مكتب مكبّا على أشياء خامدة من الورق والكلمات، ولكنه رجل شَعَرَ في حياته الخاصة بمعنى الإنسان في صورتيه الخلقية و الاجتماعية. وتلك هي المأساة التي شعر بها بن نبي بكل ما فيها من شدة، وبكل ما صادف من تجاربه الشخصية النادرة من قساوة. وهي التي تقدم المادة الأساسية لمؤلفاته سواء “الظاهرة القرآنية” أو الدراسة”.[19] التي يقدمها اليوم كأنشودة بهيجة يحي بها “كوكب المثالية” الذي يسجل فجر الحضارات منذ العصور المظلمة…وتكوين المؤلف كمهندس قد ساعده دون شك في التصور الفني للأشياء، ولكن ثقافته المزدوجة تسمح له بأن يصل هذا التصور بالخطة الإنسانية… ونضيف إلى هذا أن الأمر لا يتعلق بعمل مفيد للجزائر فحسب، لأن هذه الدراسة تتعدى بعبقريتها حدود الجزائر، لكي تضم مجال العالم الإسلامي كله، حيث أنّها تتضمن المشكلة الإنسانية في سائر عناصرها … ونحن نأمل أن تخدم هذه الدراسة سير النهضة في العالم العربي وفي العالم الإسلامي، للذين يجب أن تتوافق صحوة ضميرهما مع ضابط النغم في الضمير العالمي، الذي يبحث بصورة مؤثرة عن وسائل طمأنينته في طريق السلام والديمقراطية”. (20)
لقد كان “مالك بن نبي” ناقدا، انتقد حركة النهضة ونظر إليها نظرة تحليلية، وأبرز فيها المساوئ والمحاسن، كما انتقد وضع المسلمين وما آل إليه حالهم من تعاسة وبؤس ومن انحطاط حضاري، واهتم كثيرا بقضية الإصلاح والتجديد، وتمحور فكره على مسألة الحضارة التي أهتم بها المفكرون المسلمون في العصر الحديث، مثل “جمال الدين الأفغاني” و”محمد عبده” وغيرهما، هؤلاء الذين انتقد فكرهم “مالك بن نبي” واكتشف عيوبا منهجية في حركة الإصلاح عندهم، ومع تقديره للكثير من الجوانب الإيجابية فيها فهو يرى “بأن الحركة الإصلاحية لم تهتم بالفكر باعتباره أداة إيجابية ذات فعالية و حركة، ولكنها نظرت إليه باعتباره زينة وترفا فافتقدت الفعالية المطلوبة التي تعتبر عنده من الأسس الأولى التي يجب الاهتمام بها ليكون للفكر أثره الإيجابي”.[21] ويتسم “مالك بن نبي “في فكره حسب أحد المفكرين المقربين إليه “الدكتور محمد المبارك” بأنه “ليس مفكرا كبيرا وصاحب نظرية فلسفية في الحضارة فحسب، بل داعيا مؤمنا يجمع بين نظرة الفيلسوف المفكر ومنطقه، وحماسة الداعية المؤمن وقوة شعوره، وإنّ أثاره في الحقيقة تحوي تلك الدفعة المحركة التي سيكون لها في بلاد العرب أولا وفي بلاد الإسلام ثانياً أثرها المنتج و قوتها الدافعة، وقلما استطاع كاتب مفكر أن يجمع بين سعة الإطار والرقعة التي هي موضوع البحث، وعمق النظر والبحث وقوة الإحساس والشعور…إنه ينهل من نفحات النبوة ويتابع الحقيقة الخالدة”.[22] ويقول عنه “الأستاذ أنور الجندي” : “مالك بن نبي يختلف كثيرا عن الدعاة المفكرين والكتاب، فهو فيلسوف أصيل له طابع العالم الاجتماعي الدقيق الذي أتاحت له ثقافته العربية والفرنسية أن يجمع بين علم العرب وفكرهم المستمد من القرآن والسنة والفلسفة والتراث العربي الإسلامي الضخم وبين علم الغرب وفكرهم المستمد من تراث اليونان والرومان والمسيحية”. (23)
يستخلص الباحث من دراسته لأفكار مالك بن نبي حول الحضارة والتخلف والثقافة والإصلاح والتجديد، أنّه المفكر والفيلسوف، والناقد والمصلح. يحتل فكره مكانة بارزة في الحركة الإصلاحية الإسلامية المعاصرة، وتمثل نظريته في الحضارة والتاريخ اجتهادا في الفكر والفلسفة لم يسبق إليه أحد قبله، انبثق هذا الاجتهاد الفلسفي من الإسلام والفكر الإسلامي وواقع العالم الإسلامي والشعوب المتخلفة عامة من جهة، ومن الحضارة الغربية والفكر الغربي من جهة ثانية، إن مالك بن نبي يمثل بحق رائد فكر وصاحب تجديد وواحدا من كبار دعاة الإصلاح والتجديد والحضارة .
خاتمة :
إنّ المتصفح لفلسفة “مالك بن نبي” في الإصلاح ولنظريته في الحضارة والتجديد، يكتشف عالما فكرياً فلسفياً مليئاً بالمفاهيم وغنياً بالتصورات وفريداً في نوعه وجديداً في العديد من جوانبه، خاصة فيما يتعلق بالحضارة وعناصرها وشروطها وأطوارها، فهو يري أن ظاهرة التخلف ليست طبيعية في البشر، بل تعود إلى أسباب ذاتية وأخرى موضوعية، وتستفحل عندما تغيب الشروط والأدوات اللاّزمة للنّمو الفكري والأخلاقي والاجتماعي، هذا النًمو هو السبيل إلى التحضر، تقابله مجموعة من المشاكل والوضعيات والظروف الفاسدة المنهارة في حياة الفرد والجماعة في جميع جوانبها الفكرية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، هذه المشاكل والظروف والوضعيات ترتبط بظاهرة التخلف والانحطاط، وتقوم الحضارة باعتبارها إطاراً يضمن لكل فرد داخل المجتمع مطالبه وحاجاته في كل طور من أطوار وجوده، بإعطائه الأدوات واللوازم الضرورية للمجتمع النامي المالك لقدرات فكرية واجتماعية واقتصادية إرادة استعمال سائر القدرات في حل المشاكل التي تواجه المجتمع المتخلف، والحضارة هي التي تكوّن هذه القدرة وهذه الإرادة معًا، وهما لا تقبلان الانفصال عن دور المجتمع النامي، فالحضارة هي شرط إيجاد القدرة والإرادة لتجاوز التخلف والتدهور في ذات الفرد وفي مجتمعه، وهي ترتبط بالإنسان والتراب والزمن والفكرة الدينية التي تجمع بين العناصر الثلاثة في مركب واحد هو الحضارة. ولها عمر وأطوار هي: طور الروح، طور الأوج، و طور الأفول، تسبقها مرحلة ما قبل الحضارة وتليها مرحلة ما بعد الحضارة، لكل واحدة من المرحلتين خصائص ومميزات، وتشترط الحضارة التغيير على أسس القاعدة الإلهية التي تعبر عنها الآية القرآنية: ﴿إنّ الله لا يغيرّ ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم﴾. (24)
ظاهرة التغيير مجالها النفس أولا ثم المحيط الخارجي ثانيا، تشرط القدرة على الإبداع والقدرة على الإنتاج، ولا تقوم على التكديس والاستيراد بل على البناء، وأن تلد الحضارة منتجاتها لا العكس، لأنّ العكس يستحيل منطقيا وماديا، ويغرق المجتمع في الشيئية من جهة وفي المديونية والتبعية الحضارية من جهة ثانية، وتشترط التوجيه الأخلاقي والعملي والفني الجمالي، وهي شروط تضمن الانسجام والتكامل بين المجهود الإنساني المبذول في مستوى الفرد وفي مستوى المجتمع مع سنن وقوانين الآفاق والهداية والتطلعات، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى تكفل تلك الشروط التكامل والانسجام بين المجهود الإنساني والسنن الكونية مع جملة الشروط النفسية والاجتماعية والروحية والمادية من أجل النمو والازدهار في جميع مجالات الحياة الإنسانية.الحضارة بالمعنى المذكور هي فعل بنائي تقتضي أُسُساً فكرية وروحية وجهوداً كبيرة في عالمي الأشخاص والأشياء، وذلك يشترط مخطط تربية يهدف إلى تغيير الإنسان في الداخل وفق شروط معينة ليتمكن من أداء دوره في المجتمع ويحقق البناء الحضاري.إذا كانت الحضارة بناءا لا تكديسا واستيرادا فهي فاعلية إنسانية تقوم على تغيير الإنسان في عالمه النفسي أولا ثم تغيير محيطه ثانيا، وتحصل هذه الفاعلية بتوفر جملة من الشروط والعوامل النفسية والاجتماعية والروحية والمادية، وبتوفر الإرادة والقدرة على إبداع المعرفة وإنتاج الأشياء، واستغلال ذلك لخدمة الإنسان وضمان راحته، ولفصل الحضارة الحقيقية عن الحضارة المزيفة، فالأولى تلد منتجاتها أما الثانية فهي من صنيع منتجات حضارات الغير، والتجديد الحضاري ظاهرة إنسانية ترتبط بالحضارة وبشروطها وعناصرها وأطوارها وازدهارها وتكون سابقة على الحضارة فتصنع النمو والتحضر والازدهار، كما تكون ملازمة لها فتستمر في تنميتها وتطويرها، وقد تكون سببا في انهيارها وأفولها، والمقصود هنا عندما تبلغ الحضارة طور العقل يضعف سلطان الروح وتسترد الغريزة نفوذها فتهوي بالإنسان إلى حضيض الحيوانية حيث شريعة الغاب.لقد تميزت نظرية الحضارة عند “مالك بن نبي” بجملة من المميزات التي لم يشهدها مصلح آخر في فكره الإصلاحي، فهي نظرية انبثقت من تحليل تميّز إلى حدّ بعيد بطابعه العلمي، وبالدقة والعمق والموضوعية، والواقعية في طرحه ومعالجته للمشكلات والظواهر في حياة الفرد والمجتمع، كما تميزت الحلول التي جاء بها لتلك المشكلات والتصورات التي خرج بها من دراساته وبحوثه المعمقة للتاريخ والواقع بالقوة لارتباطها بالعلم والواقع والتاريخ والدين، و تميّز منهجه في البحث بطابعه العلمي وبتنوعه، فهو يستخدم المنهج الرياضي وطريقة المؤرخ ومسلك عالم الاجتماع وسبيل الكيميائي وغيرها، هذا ما زاد في متانة وقوة أفكاره ودقتها، وزاد في انسجام هذه الأفكار والتصورات مع ما يجب فعله في العمل الإصلاحي التجديدي.تمثل نظرية “مالك بن نبي” في الحضارة، إستراتيجية إصلاحية تجديدية تستهدف تغيير الواقع الإنساني عامة وواقع العالم المتخلف ـ العالم الإسلامي جزء منه ـ بصفة خاصة، بحيث تضع بين يديه آلية فكرية نظرية للخروج من التخلف وبلوغ مستوى الحضارة، فهي مشروع منهج وضعه صاحبه للقضاء على ظاهرة التخلف بعدما درسها وكشف عن عوامل وأسباب وجودها، ولغرض الوصول إلى الحضارة بعدما درسها وكشف عن قوانينها وآلياتها الروحية والمادية. تميّز هذا المنهج بالقوة والمتانة لارتباطه بالعلم والدين والتاريخ، وبقوانين هذه الأطر الفكرية والروحية باعتبارها مصادر توجيه وقيادة في حياة الإنسان، ولارتباطه بالفكر الإنساني القديم والحديث وبواقع الإنسان المعاصر في العالم المتقدم بما له وما عليه، وفي العالم المتخلف بما عليه، وخاصة في العالم الإسلامي الذي لا ينقصه سوى تطبيق المناهج الكفيلة بإخراجه من عالم الانحطاط وتمكينه من الحضارة، وهو أمر ليس بعسير على إنسان بين يديه كافة شروط التحضر. فهو منهج في الإصلاح يستند إلى رؤية فلسفية إلى الإنسان والحضارة والتاريخ، وإلى فكر اجتمعت فيه الأصالة مع التجديد، فكان مشروع خطة للنهضة وللصحوة وللحضارة، ونموذجا من نماذج الفكر الإصلاحي لا يستهان به، بل يقدر حق قدره لِمَا لصاحبه من نظرة ثاقبة وقدرة على الطرح والتحليل والنقد والاستنتاج، ولما لهذا المنهج من تكامل بين عناصره، ومن انسجام مع ما تقتضيه مستلزمات البناء التاريخي والنهضة الحضارية.لقد تبيّن لي وبوضوح من قراءتي لبعض الجوانب الهامة في فلسفة الحضارة والتاريخ عند “مالك بن نبي”، أن ما يجمع بين لمحاولته ومحاولات غيره من مفكري الإسلام في العصر الحديث والمعاصر الكثير، ويتعلق الأمر بالظروف التاريخية الزمنية والمكانية التي الواحدة والمتشابهة، والتي فيها نبتت فكرة الإصلاح عندهم، فهي واحدة تماما، حيث الإسلام والاستعمار والتخلف في العالم الإسلامي من جهة والحضارة والعلم والتكنولوجيا في أوربا الحديثة والمعاصرة من جهة أخرى، هذا الذي شكل روافد و مصادر الفكر الإصلاحي في عصرنا، وأوجد وحدة في المبادئ والأهداف والتطلعات، والاختلاف بين المحاولات ليس في الجوهر أو في الأساس أو في الهدف، بل في بعض الجوانب التي تخص طبيعة البحث والدراسة وطبيعة الإصلاح ومنهجه، ونوع المحاولة وخصوصياتها.فالبحث عند “مالك بن نبي” جاء ذا طابع علمي واقعي، وجاء الإصلاح بطابع اجتماعي علمي واقعي تاريخي، وجاء منهج البحث يقوم على التغيير في الفرد والمجتمع، وعلى القضاء على أسباب التخلف والأخذ بأسباب الحضارة كما هي في نظرية الحضارة، كما يقوم على التوجيه الديني والأخلاقي والعملي مع الاستفادة من خبرات وتجارب الآخرين العلمية والحضارية، ولم تكن المحاولة خاصة أو موجهة لفئة بعينها بل جاءت عامة تشمل العالم المتخلف والعالم العربي والإسلامي جزء منه لكونها مشروع تحرر واستقلال وإصلاح ونهضة وتحضر، وهو مشروع يعني أي عالم متخلف يحتاج إلى الخروج من التخلف وأي أمة تسعى نحو الريادة.جاءت فكرة التجديد الإصلاح في المشروع نتيجة واقع المسلمين المتردي، وتُشكّل محاولة فكرية لتغيير النفس والفكر والواقع في العالم الإسلامي، تميزت بالقوة لارتباطها بالإسلام وبالعلوم المزدهرة وبالفكر الإسلامي، وتشكل رؤية فلسفية إلى الإنسان والحياة والتاريخ والحضارة، وتمثل مشروع خطة ذات طابع فكري نظري، للنهضة وللتجديد ولبناء الحضارة، وللدخول إلى التاريخ، وإلى حلبة المعترك الحضاري، واحتلال أمة الإسلام لمكانتها اللائقة بها في إطار الحوار والتواصل الندّي الحضاريين.إذا كان الفكر الإصلاحي عند مالك تميز بالقوة والمتانة نظرا لصلته المباشرة بواقع وحياة المسلمين في العالم الإسلامي المعاصر، ولتعبيره عن مشاكلهم وهمومهم، وعن آمالهم وتطلعاتهم، وبلوغه مستوى رفيع من الحقيقة في مناهجه وأساليبه لأنه أخذ بالدين والعلم وبالتاريخ، واستطاع أن يكفل التوازن بين طرفي الكمال، الروح والمادة، الدين والدولة، الدنيا والآخرة، فما أحوج العالم الإسلامي المعاصر إلى المشروع للتجديد ولبلوغ السمو الروحي والأخلاقي، ولبناء حضارة تلد منتجاتها الفكرية والمادية، ولضمان التوازن بين المثال والواقع، بين الروح والمادة، وبين الدين والدولة، ذلك هو عين التحضر وقمّته، وهو مبتغي الإسلام ومقصده، فالحضارة هي التمكين لقيّم ومبـادئ الإسلام على أرض الله
الهوامش
1 – قرآن كريم: سورة الرعد الآية 11.
2 – قرآن كريم: سورة الرعد، الآية11
3 – مالك بن نبي: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص34
4 – نقلا عن الطيب برغوث: موقع المسألة الثقافية من إستراتيجية التجديد الحضاري عند مالك بن نبي، ص3
5 – قرآن كريم: سورة الرعد، الآية 11
6 – غازي التوبة:الفكر الإسلامي المعاصر دراسة وتقويم،ص61
7 – المرجع السابق: ص62
8 – المرجع نفسه:ص66
9 – المرجع السابق: ص7
10 – المرجع السابق: ص78
11 – المرجع السابق: ص79
12 – المرجع السابق: ص79
13 – مالك بن نبي: مذكرات شاهد القرن، ص15
14 – مالك بن نبي: في مهب المعركة،ص 120
15 – المرجع السابق: ص120
16 – نقلا عن الطيب برغوث:موقع المسألة الثقافية من إستراتيجية التجديد الحضاري عند مالك بن نبي، ص3
17 – عمار طالبي:مقال “مالك بن نبي والحضارة”، مجلة الثقافة، السنة الثالثة، العدد18، سنة 1973
18 – الطيب برغوث: موقع المسألة الثقافية من استراتيجية التجديد الحضاري عند مالك بن نبي، ص8
19 – المقصود بالدراسة كتاب”شروط النهضة” لمالك بن نبي
20 – محمد عبد السلام الجفائري:مشكلات الحضارة عند مالك بن نبي،ص48
21 – مالك بن نبي: وجهة العالم الإسلامي، ص13
22 – محمد عبد السلام الجفائري:مشكلات الحضارة عند مالك بنبي،ص48
23 – الدكتور أسعد السحمراني: مالك بن نبي مفكرا إصلاحيا، ص 22
24 – سورة الرعد، الآية11