من قضايا الاستغراب البنابي : علاقة الإسلام والديموقراطية نموذجا

عدد القراءات :2914

الأستاذ محمد البنعيادي1

المبحث الأول: في التمييز بين التغريب والاستغراب
المطلب : لـالأولغـة
غ-ر-ب: الغربة والاغتراب، تقول تغرب واغترب، فهو غريب…واغترب فلان إذا تزوج إلى غير أقاربه…
والتغريب النفي عن البلد، وأغرب جاء بشيء غريب، وأغرب أيضا صار غريبا…وغرب بعد يقال أغرب أي تباعد2.
وغرب القوم ذهبوا في المغرب، وأغربوا أتوا الغرب، وتغرب أتى من قبل الغرب..والغربة والغرب النزوح عن الموطن والاغتراب3.
وفي الحديث: إن فيكم مغربين – بكسر الراء – قيل:ما مغربون؟ قال: الذين يشترك فيهم الجن، سموا مغربين لأنه دخل فيهم عرق غريب.
المطلب الثاني: اصطلاحا
و(الاستغراب) مأخوذة من (الغرب) أي التطلع نحو الغرب لغاية ما، أي طلب الغرب.
وإذا كان معنى: استشرق: طلب علوم الشرق ولغاتهم وهذا المعنى من المولدات اللغوية العصرية4، وإذا كان الاستشراق اليوم دراسة الغربيين لتاريخ الشرق وأممه ولغاته وآدابه وعلومه وعاداته ومعتقداته وأساطيره5، إذا كان الأمر كذلك، فإن الاستغراب هو طلب علوم الغرب ولغاته، وهو دراسة الشرقيين لتاريخ الغرب وأممه ولغاته وآدابه وعلومه وعاداته ومعتقداته وأساطيره، وهو كذلك من المولدات العصرية.
يقول د.حسن حنفي: الاستغراب هو الوجه الآخر والمقابل والنقيض من (الاستشراق). فإذا كان الاستشراق هو رؤية الأنا (الشرق) من خلال الآخر (الغرب)، يهدف (علم الاستغراب)، إذن إلى فك العقدة التاريخية المزدوجة بين (الأنا) و(الآخر)… والقضاء على مركب العظمة لدى (الآخر) الغربي بتحويله من ذات دارس إلى موضوع مدروس، والقضاء على مركب النقص لدى الأنا بتحويله من موضوع مدروس إلى ذات دارس مهمته القضاء على الإحساس بالنقص أمام الغرب لغة وثقافة وعلما6.
وقـد نشـأ (علـم الاستغـراب) Occidentalisationفي مواجهـة التغـريب Westernisation الذي امتد ليس فقط إلى الحياة الثقافية وتصوراتنا للعالم وهدد استقلالنا الحضاري،بل امتد إلى أساليب الحياة اليومية ونقاء اللغة ومظاهر الحياة العامة وفن العمارة..7.
فعندما تثير صدمة المواجهة مع الحضارة الغربية ردود أفعال مختلفة عند الغرباء عنها، منهم من يصاب بحالة من الانبهار تفقده نفسه، حتى إذا بدأ البحث عنها لم يجدها إلا في الذوبان الكامل في تلك الحضارة وهؤلاء هم دعاة التغريب8.
فالتغريب إذن نوع من الاغتراب Alienation بالمعنى الاشتقاقي للفظ، أي تحول (الأنا) إلى (آخر)9.
وبهذا المعنى فتح الباب واسعا أمام (التغريب) ليحتل المساحة الأكبر من عقول المسلمين، كما احتلت جيوش الغزو بلادهم، وسيطرت شركاته على ما فيها من موارد وخيرات وأسواق. فحين زحفت البلاد الغربية نحو البلاد الإسلامية..انهزم المسلمون أمام سيوفها أولا، ثم استسلموا بعد ذلك لثقافتها وحضارتها وفلسفتها، فما لم يستطع سيفها إنجازه، أكملته فلسفتها، ولم تجر على العالم الإسلامي سيطرتها السياسية ما جره عليه غزوها الحضاري والفكري من البليات والمصائب. فالسيطرة السياسية كانت تتحكم في الأجساد فقط، أما السيطرة الحضارية والفكرية فقد تحكمت في العقول والأذهان10.
ولقد كان من أوائل من استعمل مصطلح (الاستغراب) بالمعنى الأول – دراسة الغرب -11 الدكتور أنور عبد الملك في مجموعة من كتاباته .
ولقد أصبح على علماء الشرق الذين يدرسون المجتمعات الغربية أو المذاهب العلمية القائمة أن يتقنوا الإنجليزية والفرنسية والروسية والألمانية والإيطالية والإسبانية..أليس على علماء الشرق أن يتكلفوا تكاليف باهضة للإطلاع على مختلف المعارف في الغرب، وفي أوروبا وفي أمريكا الشمالية خاصة؟
وهل سيكون علينا من أجل ذلك أن نؤسس مؤتمرات للعلوم الإنسانية في أوروبا وفي أمريكا الشمالية، وأن نطلق على المختصين الذين سيهتمون بهذه العلوم اسما جديدا هو: المستغربون؟12.
إن الاستغراب- بهذا المعنى- يعبر عن قدرة (الأنا) باعتبارها شعورا محايدا على رؤية الآخر ودراسته وتحويله إلى موضوع، لكن الفرق هذه المرة هو أن (الاستغراب) يقوم على (أنا) محايد لا يبغي السيطرة، وإن كان يبغي التحرر من هيمنة الغرب والخلاص من آثار ثقافته وتشوهاتها في عالمنا.إن (الاستغراب) لا يهدف إلى تدمير الثقافة الغربية وإنما يهدف إلى تحليلها والتعرف على مكوناتها الأساسية ورد عناصرها إلى منابعها، ودراستها بعمق بغية خلق مناعة ومقاومة وحساسية من تشوهاتها وبعض عناصرها التدميرية، وبالتالي تحصين الهوية الحضارية لأمتنا من العناصر القاتلة في ثقافة (الآخر)، وحماية مجتمعاتنا من النزاعات التدميرية في فكر الآخر وقيمه وتقاليده الجديدة13، خاصة بعد أن عاد الغرب بهجمته الاستعمارية الثانية الحالية.
و تجدر الإشارة إلى أن المعنى الذي أوردناه لـ(الاستغراب) حديث بالمقارنة مع المفهوم الأقدم والأكثر انتشارا وشيوعا أي طلب الغرب والشغف بثقافته14. وقد تتداخل معاني ومضامين التغريب والاستغراب والاغتراب في أكثر الكتابات وتتجه إلى معنى التأثر بالغرب والتماهي مع مكوناته الثقافية وعاداته وتقاليده الاجتماعية ألخ..
والحقيقة أنه لم ينشأ عندنا (علم استغراب) يقابل (الاستشراق) الذي أوجده الغربيون بكيانه ومناهجه ومدارسه وفلسفته وأهدافه التي يمكن تلخيصها في الأهداف التالية:
* الدينية: وهي أهم الدوافع وأكثرها استغراقا في أبحاث المستشرقين.
* الاستعمارية: بعد هزيمتهم في الحروب الصليبية لم ييأسوا من العودة إلى احتلال بلاد المسلمين، وخاصة بعد طردهم من الأندلس، وكانت معرفة أحوال المسلمين مقدمة ضرورية للهجوم الاستعماري.
* الاقتصادية: إيجاد أسواق لمنتوجات الغرب والبحث عن المواد الخام لتطوير الصناعة، حيث كان المستشرقون يلعبون دور الخبراء الاقتصاديين.
* النفسية: فك عقدة النقص تجاه المسلمين.
* العلمية: من المستشرقين -وهم قلة- من اندفع لمعرفة الشرق لحوافز علمية وحب الاطلاع على حضارات الأمم الأخرى وأديانها وثقافاتها ولغاتها15.
ورغم ذلك يمكن الاقتراب من مفهوم (الاستغراب) بهذا المعنى عند أشهر المتصلين بالغرب من المسلمين ومنهم على سبيل المثال:
* رفاعة الطهطاوي (ت1873) في كتابه تلخيص الإبريز حيث وصف ما صادفه في رحلته إلى باريس.
* محمد عبده (ت1905) في كتابه: الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية،حيث قام بدراسة النصرانية والإسلام دراسة مقارنة.
* شكيب أرسلان (ت1946) في كتابه : لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟
* مالك بن نبي (ت1973) في كتابه: (الصراع الفكري في البلاد المستعمرة) تناول اتجاهات الغرب المختلفة في السيطرة على العالم الإسلامي ومقدراته الاقتصادية والفكرية.
بالإضافة إلى آخرين مثل: الأفغاني، سيد قطب، الكواكبي، إقبال، محمد باقر الصدر…، الذين أنجزوا دراسات متميزة في نقد الاتجاهات الحديثة في الفكر الغربي.
وقد حاول د.حسن حنفي صياغة رؤية نظرية أولية لعلم الاستغراب كانت عبارة عن دعوة للنهوض بهذا العلم تأسيسا وتقعيدا ونشرا وممارسة. ولقد أثارت هذه الدعوة بعض المثقفين، فكتبوا حولها مراجعات تقويمية.. وبقطع النظر عما تنطوي عليه تلك التقويمات من خطأ وصواب، تظل الحاجة لتأسيس (علم الاستغراب) ملحة في عالمنا الذي ما فتئ يعيد إنتاج أدوات التبعية للغرب في كل شيء، لاسيما في عصر العولمة، ومطامع الإنسان الغربي في طمس الثقافات الأخرى وتعميم ثقافته على العالم بأسره16.

المبحث الثاني: التجربة الاستغرابية البنابية: الإسلام والديموقراطية نموذجا
تمهيد:
لقد تطرق مالك بن نبي في مشروعه الفكري إلى عدة قضايا ومشكلات حضارية تتصل بالمنظومة الغربية استيعابا ونقدا مثل: مادية الحضارة الغربية، وفعالية الحضارة الغربية، النزعة الجمالية في الحضارة الغربية، ومركزية وعالمية الحضارة الغربية، وحدود الموضوعية في الحضارة الغربية، وإشكالية المصطلحات والمفاهيم في الحضارة الغربية…
ومن القضايا التي شغلت فكر ابن نبي في الجانب السياسي قضية الديموقراطية ذات الأصول الغربية وعلاقتها بالمرجعية الإسلامية. ولعله من أوائل من قام بدراسة تحليلية علمية جادة استعان فيها ببعض العلوم الغربية مثل علم النفس وعلم الاجتماع، وبلور رؤية جديدة لهذه العلاقة، ولذلك – وغيره مما لم أذكر – كان رائد الاستغراب خاصة أنه عاش فترة طويلة في الغرب جعلته خبيرا به وبعلومه وثقافته ومفكريه وفلاسفته…
فما هي النظرة البنابية لهذه العلاقة التي احتلت – فيما بعد – حيزا مهما في فضاء الفكر الإسلامي؟؟ هذا ما ستحاول هذه الورقة الإجابة عليه بحول الله.

الديموقراطية: إشكالية المصطلح والمفهوم
إن الموضوع الذي بين أيدينا يثير الكثير من الأسئلة المشروعة التي تؤرخ لواقعنا المثقل بالأسئلة المعلقة.
هل تقبل المرجعية الإسلامية بالديموقراطية ؟
هل يتجانس الطرح الديموقراطي مع الأسس الإسلامية ؟…
لقد كان مالك بن نبي واحدا من المفكرين السباقين لمحاولة الإجابة عن هذا السؤال من خلال كتاباته المتعددة وخاصة المحاضرة التي ألقاها بنادي الطلبة المغاربة بسوريا سنة 196017 . هذه المحاضرة التي حاول فيها إبراز الموقف “الإسلامي” من الديموقراطية في وقت لم يكن الموقف منها متبلورا بالقدر الكافي داخل الوسط الإسلامي.
ولقد حاول الأستاذ مالك من خلال هذه المحاضرة ومن خلال إشارات أخرى في جل كتبه، الغوص إلى أبعد الحدود في تحليل العلاقة بين الإسلام والديموقراطية.
لقد رأى مالك المشكل – أساسا – في الربط بين مصطلحي “الإسلام” و”الديموقراطية”. وكخطوة منهجية أولى لتفكيك وتحليل هذه العلاقة، كان من اللازم تعريف كلا المصطلحين. فما هو الإسلام إذن، وما هي الديموقراطية ؟

في معنى الإسلام
يستقى مالك تحديده لمعنى الإسلام من حديث جبريل المعروف والذي جاء فيه بأن “الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا “18، ويتضح من خلال هذا النص أن الإسلام مجموعة من المعتقدات والأفكار والأحكام والتشريعات المترابطة والمرتبطة بالوحي في مجالات الكون والإنسان والحياة تتوخى هداية الإنسان. إنه توجه – وتوجيه- قيمي يرسم المسيرة الصحيحة لحياة الإنسان وخلافته في الأرض، إنه (فكر) منظم لرؤية فلسفية تتميز بالتكامل والشمول والتوازن عبر (شريعة) تنشد ارتقاء الإنسان في الدنيا والآخرة.ولعل أحد أهم مجالات التشريع هو الحياة الاجتماعية التي تتصل اتصالا وثيقا بالسياسة والحكم. إذن، الإسلام لابد وأن يهتم بالسياسة، والسياسة لابد وأن تتحرك في نطاق الدين، ويظهر ذلك – بيسر- لكل متأمل في محتوى وطبيعة القضايا الدينية والسياسية. فالمشترك بين الدين والسياسة يرتبط بالهدف والقضايا الاجتماعية المراد معالجتها، بل لن نكون مغامرين إذا قلنا بأن الدين يغطي باستمرار كل مجالات السياسة. ولعل المتأمل في حركة الأنبياء عموما – والحركة النبوية المحمدية خصوصا – يلاحظ أن الفكر السياسي التوحيدي ظل نبراسا للعمل السياسي في مجتمعات الدعوة والدولة معا.
وتتلخص معالم هذا الفكر السياسي التوحيدي في:
أ – إقرار الحق للناس ودفع الظلم عنهم.
ب – الدعوة إلى الله وتنظيم علاقة الإنسان مع خالقه ومع العباد؛
يقول تعالى: } لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط {، ولاشك أن إقرار العدل والقسط في حاجة إلى قانون والذي بدوره لا وجود له إلا بوجود نظام حقوقي واضح والذي لا يمكن تنفيذه إلا في إطار نظام سياسي وأدوات تنفيذية واضحة. كما لا يتحقق الحكم والنظام السياسي إلا بفكر سياسي ذي مرجعية دينية ثقافية واضحة في أذهان الفاعلين السياسيين من جهة وفي ذهن الأمة المسلمة من جهة أخرى.
ويجدر أن ننبه إلى أن مفهوم ” الأمة المسلمة ” – عند تأمله – مفهوم إيجابي يمثل حالة الوعي والمسؤولية والالتزام بالمضامين الإسلامية ويمثل الرسول وصحابته رضي الله عنهم نواتها، هذه النواة التي قاومت مشروع ” الأمة الظالمة ” ورموزها المستبدين الذين ساروا بشعوبهم نحو الفساد والإفساد في الأرض.
إن “ مفهوم الأمة المسلمة ” – بعبارة أخرى – هو ذلك المفهوم الذي تلخص في التطور الكمي والنوعي، والتطور المفاهيمي والمؤسساتي على مستوى ( الناس ) يوازيه تطور على مستوى المرجعية الدينية والثقافية التي تؤطر في اتجاه تنمية الالتزام والمسؤولية والانضباط لدى (الناس) ليصبحوا ممارسين للفعل التغييري السياسي عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعبر نظام ثقافي يؤسس لنظام سياسي يمتلك مقومات بناء نظام اجتماعي تبرز من خلاله مختلف التصورات والتطورات الاقتصادية والاجتماعية والقيمية التي تحقق خيرية هذه الأمة لقوله تعالى:” كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر { وتحقق فلاح المؤمنين } ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون” [آل عمران / 104] .

في معنى الديموقراطية :
وما هي الديموقراطية في أبسط معانيها ؟ إنها تعني “سلطة الشعب” أو الجماهير.
إنها مجموعة ممارسات ووسائل لصناعة القرار السياسي عن طريق مشاركة الغالبية من أفراد الأمة باعتبارها حجر الزاوية الأساس للنظام والفكر الديموقراطيين. إنها تقوم على مبدأين كبيرين: حرية الإنسان والاعتراف بالآخر. إنها مدلول عملي مؤسساتي أكثر منه أكاديمي نظري فلسفي ميتافيزيقي، إنها نظام معرفي – يمكن أن يطبع بأي طابع – ينعكس على الواقع من خلال بنية مؤسساتية، إنها تيكنولوجيا وآليات وأدوات تعزز من قيمة الإنسان في الأرض وخلافته عليها، وتعزز مساحة الحرية والحركية للإنسان محور الديموقراطية .
إذن ما هو وجه المقارنة بين مفهوم سياسي يفيد ” سلطة الإنسان ” في نظام اجتماعي معين وبين مفهوم ديني يفيد ” خضوع الإنسان ” إلى سلطة الله في النظام نفسه ؟
كذلك، “الديموقراطية ” لا يعرف – بالضبط – متى أدرجت في اللغة العربية كمفردة مستوردة ولا حتى تاريخ حدوثها في لغتها الأصلية.
وبهذا يظهر أن الصلة مفقودة بينهما زمانا ومكانا، وربما أمكن القول مجازفة، نظرا لهذا التباعد من حيث الجغرافية بأن ليس هناك (ديموقراطية في الإسلام)19.

بين الإسلام والديموقراطية :
هل إقامة حكم الشعب (الديموقراطية) مشروطة بإلغاء الحاكمية الإلهية؟ وهل تقف الحاكمية الإلهية ضد حاكمية الأمة والشعب ؟
لتحرير القول في ذلك لابد من مراعاة حقيقتين مهمتين :
1 – الحقيقة الدينية: حيث لا يختلف إنسان مسلم كيفما كان مذهبه على أن الحاكمية الأولى هي الحاكمية الإلهية وإلا سقط المعنى الأول والأساسي للدين الذي يختزن مجموعة من الحقائق الدينية ( الحياة، الموت، البعث…).
2 – الحقيقة الاجتماعية/ السياسية: حيث من المسلم به أن الإسلام يستهدف تحويل نصوصه وتعاليمه إلى قيم وأخلاق وأحكام وبالتالي إلى ثقافة تؤطر الإنسان المسلم بقوتها ونفاذها ونفوذها، وذلك لا يتحقق إلا بتفاعل الديني مع الاجتماعي/ الثقافي/السياسي، حيث على السياسي – مثلا -تسخير الديني المقدس في بناء الثقافة السياسية للمجتمع المسلم، ولذلك فقد يختلف مجال الديموقراطية كما تختلف قضيتها، فإذا كان الإسلام يتعارض مع بعض المسائل الوضعية للديموقراطية، فهذا بسبب سمته الكلية كدين … لكن لأنه لا يوجد إجماع على المعنى الدقيق للديموقراطية كنظام سياسي فإننا لا نستطيع أن نجعل من تعريف واحد أساسا (لمقارنة الإسلام والديموقراطية) وأنه لا يوجد نوع من الحكم القائم على أساس أيديولوجي أو تركيب اجتماعي واقتصادي لا يمكنه أن يكون جديرا بصفة الديموقراطية بالمعنى الشائع عنها في زماننا دون أن يكون معتمدا على عدد من المبادىء أو متجليا في المواقف والقيم الاجتماعية عند تابعيه أو ظاهرا في قوانينها، وأهم هذه المبادئ الاعتراف رسميا بقيمة كل مخلوق إنساني بصرف النظر عن صفاته… ومساواة كل المواطنين أمام القانون بصرف النظر عن السمات العرقية أو القومية أو الطبقية …”20.
إن عدم التدقيق في ماهية الموضوعات قد يوقع في خطأ المقارنة بين موضوعين من طبيعتين مختلفتين مثل المقارنة بين الإسلام والديموقراطية، أي بين ما طبيعته اعتقادية فكرية سلوكية (الإسلام) و بين ما طبيعته تدبيرية إجرائية (الديموقراطية) -كما سنرى- والحقيقة أن المقارنة يجب أن تطال مساحة ما يسمى (الفراغ التشريعي) أو مقاربة المشترك بين الحقلين و الذي لا شك فيه أن كلا من الإسلام والديموقراطية يحتويان على مضمون ثري يجب إظهاره لتيسيير المقارنة.
إن أي مفكر إسلامي -مثل مالك بن نبي -عندما يتصدى لوضع نظرية جديدة عن “الديموقراطية الإسلامية” فإنه “يقوم خاصة بالمقارنة بين مفاهيم المساواة في الإسلام وبين الفكر الكلاسي الغربي، فإنه يستمد شجاعة وقوة قلب عندما يجد أن المساواة التي يقر بها الإسلام – على خلاف ما هو معروف عند اليونان – لا يحتوي على أي شرط مسبق”21 سوى التقوى والعضوية في الأمة، لأن الإسلام يعترف بالإنسان رسميا بصرف النظر عن عقائده وجنسه، وإن كان يعارض النزعات القومية فحجته في ذلك أنه يستنكر كل المعايير “الجاهلية” العرقية والقومية والإرثية التي تميز بين المخلوقات الإنسانية باستثناء التقوى التي تجعل الإنسان أعز وأكرم وأفضل من الآخر إن أكرمكم عند الله اتقاكم .
لحل الإشكال، يركز مالك على الأسس والبنية الداخلية للديموقراطية والمراتب التي تعتمدها في تطوير ذاتها دون ربطها بأي مفهوم مسبق كالإسلام أو المسيحية. ويذهب إلى أنه “ينبغي علينا في الواقع أن نعيد الكرة في تحديد الديموقراطية ونحددها دون ربطها مسبقا بأي مفهوم آخر كالإسلام، فننظر إليها على أعم وجوهها أي في إطار عموميتها قبل أن نربط الموضوع بأي مقياس مسبق. ففي مثل هذا الإطار .. يجب أن نعتبر الديموقراطية من ثلاثة وجوه :
1 – الديموقراطية كشعور نحو الـ ” أنا “.
2 – الديموقراطية كشعور نحو الآخرين.
3 – الديموقراطية كمجموعة الشروط الاجتماعية السياسية اللازمة لتكوين وتنمية هذا الشعور في الفرد “22.
إن ابن نبي يتحدث عن الديموقراطية بوصفها شعور الإنسان نحو ذاته، نحو بنية “الأنا”. وهذا الوعي بالذات شرط جوهري في بناء الثقافة الديموقراطية المتمحورة حول حقيقة الإنسان وماهيته، حول العقل والحرية والخلافة وصناعة التاريخ …
كما أن الوعي بالذات يسهل بناء منظومة ثقافية واجتماعية تفضي تلقائيا إلى الوعي بالآخر (الشعور نحو الآخر) عبر منظومة قيمية أساسها الحوار والوعي المتبادلان. ولذلك نلاحظ-مثلا- أنه بالثقافة الديموقراطية والحس الديموقراطي والوعي الديموقراطي والروح الديموقراطي رفع الإنسان الأوروبي من مستوى قنSerf إلى مستوى مواطن Citoyen ، هذا التساوي عزز من قدرة الثورة الفرنسية على ترسيخ شعاراتها : الأخوة، المساواة … ولهذا ركز مالك على فلسفة الوعي بالآخر الذي إذا فقد فقدت الديموقراطية معناها البنائي، وبالتالي فقدت الشروط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لبناء الديموقراطية الحية الحقة. إن ” الشعور نحو الآخرين ” كما حدده مالك بن نبي يؤسس قواعد المنهج الإتصالي في النظام الديموقراطي ويعزز فلسفة الاتصال في بعدها الثقافي والروحي والإداري والسياسي… ولذلك نراه يدعو إلى إنشاء علم اجتماع ديموقراطي وخاصة في الكيانات التي تتوفر على خصائص “مجتمع” لترسيخ الثقافة والتربية الديموقراطية.
لكن هل النص القرآني والحديثي يحتوي على المعادلات المشكلة لبناء المشروع الديموقراطي ؟
إن هذه المعادلات قائمة في بنية النص قبل وجودها في الديموقراطية الغربية، والروح الديموقراطي يتشابه إلى أبعد الحدود مع الوظيفة القرآنية وروح المشروع القرآني الذي يتمحور حول الإنسان.
وهكذا نلاحظ أن النص القرآني -كذلك-كان فيه الإنسان محورا مهما لقوله تعالى: }ولقد كرمنا بني آدم { [سورة الإسراء/ 70]، وهذا التكريم يقتضي بداهة الإحساس بالذات والوعي بالآخر في الوقت نفسه.
إن موقع الإنسان في النص يتجلى من خلال:
** محورية الإنسان في القرآن.
** جعله خليفة في الأرض.
** التأكيد على بناء الخلافة في النفس والآخر قبل بنائها في الأرض.
ولتفعيل هذه المحورية ربط النص الحديثي -مثلا- ” الأنا ” بـ”الآخر” في قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )23 وقوله “ص” : (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى)24 ، إنه الوعي والإحساس بالآخر في أجلى صوره، وإنه منهج اتصالي رفيع داخل النص يؤمن سلامة البناء وتفعيله.
إن الإسلام يحمل رؤية متكاملة تشكل وعي الإنسان الخليفة وتحدد حركته في الأرض، هذه الرؤية التوحيدية تحمل ثقافة اقتصادية واجتماعية وسياسية ونفسية وروحية وتربوية…
إن هذه الوجوه الثلاثة ( الشعور نحو الأنا والشعور نحو الآخر والشروط الاجتماعية والسياسية) تبرز – دون شك – ما تقتضيه الديموقراطية في الجانب الذاتي والموضوعي، أي كل “الاستعدادات النفسية التي يقوم عليها الشعور الديموقراطي والعدة التي يستند عليها النظام الديموقراطي في المجتمع ، فلا يمكن أن تتحقق الديموقراطية كواقع سياسي إن لم تكن شروطها متوفرة في بناء الشخصية وفي العادات والتقاليد القائمة في البلد”25 ، وهذه الشروط “خلاصة ثقافة معينة وتتويج لحركة الإنسانيات وتقدير جديد لقيمة الإنسان، تقديره لنفسه وتقديره للآخرين” معنى ذلك أن هذه الحركة وهذا التقدير المزدوج لقيمة الإنسان هما الشرطان الأساسيان لنشوء وتخلق “الشعور الديموقراطي” ليصبح نظرية أو رؤية في بناء النظم والمؤسسات من أجل تغيير الواقع إلى الأحسن ، نحو تحرير الإنسان من قيد العبودية والاستضعاف .
إن هذا الشعور – وعبر تراكمات – كفيل بأن يكون اللبنة والمنطلق في بناء صرح الحرية وحقوق الإنسان وبناء دولة الإنسان كما يقول السيد محمد حسين فضل الله، ومهما يكن الغموض الذي يكتنف هذا الشعور الديموقراطي، فإنه يبرز عندما نخلصه من قيود التاريخ والسياسة السائدة ونعبر عنه بلغة علم النفس وعلم الاجتماع كما يذهب إلى ذلك المرحوم ابن نبي.

في مظاهر السلوك الاستبدادي: فرعون نموذجا
عندما يدعو ابن نبي إلى الاعتماد على علم النفس وعلم الاجتماع في تحليل الموضوع الذي بين أيدينا، فإنه يريد تحليل النوازع النفسية للنفس البشرية في علاقتها المؤثرة بمحيطها الثقافي والاجتماعي والسياسي.ذلك أنه عندما تكون النزعة الذاتية-مثلا-أقوى من نزعة الإيمان لدى الإنسان، وعندما تتحرك نوازع الشيطان وعوامل الفجور الأخلاقي والثقافي والسياسي….في النفس، تتحرك -موازاة مع ذلك أو نتيجة له- نزعة الاستبداد الفعلي أو الفكري لتطلق ممارسات استبدادية جبروتية تسعى لتحريف الحقائق والهيمنة عليها إلى حد قد ينصب الإنسان نفسه إلها معلنا كما قال تعالى عن فرعون: “فحشر فنادى فقال :أنا ربكم الأعلى” [النازعات 24]،وقال فرعون “ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد” [سورة غافر 29]، و ” قال فرعون : يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري “ [القصص 38]، وقال لموسى : ” لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين” [الشعراء 29 ]… أو إلها غير معلن بادعائه امتلاك الحقيقة وناصية المعرفة، ذلك هو السلطان الجائر والحاكم الظالم والمفتي الكاذب… الذي لا يقبل نقاشا أو انتقادا… هذا هو حاكمنا الراهن ذو الثقافة الأحادية كما قال مالك بن نبي ، وهذه هي دولنا المستبدة.
ويبلغ الاستبداد بالحاكم إلى درجة الاستهانة والاستخفاف بالمجتمع كما فعل فرعون ” فاستخف قومه” [الزخرف 54]، حتى أن المجتمع فقد ثقته بثقافته وفكره وعقله ثم بنفسه، فأطاع الحاكم طاعة عمياء نفت شعوره الذاتي “فأطاعوه، إنهم كانوا قوما فاسقين” [الزخرف 54].
إن فرعون عندما استكبر بحكمه وميز بين نفسه وبين شعبه فكريا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا فقد ساقهم بذلك إلى الاستضعاف والاستعباد. يقول تعالى: “إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المسرفين” (سورة القصص/4).
لكن إذا كان (الناس) هم سند الأنبياء والمرسلين -بعد الله عز وجل- في الدعوة والتغيير فلا غرو أن نجد القرآن الكريم يوجه موسى ليطرح قضية الإصلاح والتغيير على فرعون قائلا: “اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى ” [النازعات/17-19].
لكن فرعون الذي أسست الخرافة ونرجسية الذات مكانا لهما في عقله وتصرفاته وسلوكه، أصبح عدو نفسه وشعبه، بل أصبح سجين أوهامه التي جعلت موسى عليه السلام يقود حركة تغييرية غاضبة عليه، ويأتي مبشرا قومه بحكومة الصاحين الصالحين المتقين: ” قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين”[الأعراف/128]، ويؤكد داود عليه السلام هذا التبشير بحكومة العدل والتوحيد “ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون” [الأنبياء 105] .
إن حركة موسى (ع) قوبلت بمواجهة ضارية من طرف فرعون، وعلى جميع الأصعدة لطبيعته الاستبدادية. فالحاكم المستبد دائم الخوف حيث لا يتحمل حملات التوعية والدعوة إلى الإصلاح الذي يستهدف نظامه وربما وجوده أيضاً، ولذلك يضطر إلى اللجوء إلى اتهام أقطاب المعارضة بكل التهم الممكنة وغير الممكنة كإجراء وقائي ضد كل الأخطار التي تهدده. “قالوا: أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما (موسى وهارون) الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمومنين”[يونس/78]، بل يجعل الناس ينفرون من المعارضة الصالحة المصلحة باتهامها : ” قال : أجئتنا لتخرجنا بسحرك يا موسى” [ طه/57] “إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقكم المثلى” [طه/63]. إن فرعون يصور للناس وضعهم البائس تصويراً جميلاً نعته بالطريقة المثلى.
حتى إذا فشل، بدأ يتوسل بادعاء التدين والتستر به وتنصيب نفسه حامي حمى الملة والدين في محاولة لعرقلة مسيرة التدين الحقيقي “وقال فرعون : ذروني أقتل موسى وليدع ربه ، إني أخاف أن يبدل دينكم أو يظهر في الأرض الفساد”[ غافر/26]. وقد يتمادى المستبد في مخادعة الجماهير وتضليلهم وينصب نفسه مرشداً روحياً هادياً إلى الحق والصواب “قال فرعون : ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد”. وقد يعمل “الفرعون” على تقسيم مجتمعه بين مستكبرين يعينونه على المستضعفين لتثبيت سلطانه “إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا” [القصص/4] مدعياً امتلاك “المكان” الذي يعيش فيه المجتمع “ونادى فرعون في قومه قال : يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون”[ الزخرف/51]. إن التاريخ مليء بمآسي الاستبداد والديكتاتورية التي حولت حياة الناس إلى جحيم لا يطاق مثل قصة أصحاب الأخدود الجبابرة الذين ما نقموا من قومهم إلا لأنهم لم يريدوا اتباع مسلكهم وآمنوا بالعزيز الحميد كما ورد في سورة البروج .
إنها طبيعة المستبد، جشع بالغ وطمع يتجاوز كل الحدود، وتفرعن واستعلاء وفساد وإفساد.. إنه تاريخ مشحون بالمآسي والدموع …
فالقرآن الكريم يصف فرعون بأنه كان مستكبراً متعالياً مسرفاً متجاوزاً الحد، فهو يرى نفسه فوق الآخرين وإرادته فوق إرادتهم إذ يقول تعالى : ” فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئه أن يفتنهم ، وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين” [يونس/83]، ” ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوماً عالين فقالوا : أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون” [المؤمنون/45-47]، إنه تصوير رائع لحالة سياسية مستبدة، إذ الاستبداد حالة طغيان تجعل الحاكم المستبد لا يقبل نصيحة أو انتقاداً ،فيصير سيء فعله حسناً في نظره ،كما يخبر بذلك القرآن عن فرعون إذ يقول “وقال فرعون:يا هامان، ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب، أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا،وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل،وما كيد فرعون إلا في تباب” [غافر:36-37].
إن الحاكم المستبد في الرأي والحكم يعتقد أنه يجب على الجميع أن يروا رأيه ويتبعوا فكرته سواء أوافق الدليل أم لا وسواء أطابق المصلحة أم لا، بل يكفي في صحته ولزوم طاعته أنه رأي الملك ومشيئته26.
إن القرآن الكريم في حديثه عن فرعون وهامان ونمرود وأصحاب الأخدود … وكل جبابرة التاريخ يدين الحكومة الاستكبارية التي تربط الناس والنظام والقانون بوجودها بديلا عن جهاز سياسي قويم قوامه إرادة تقابل إرادة أنظمة الحكم الفاسدة المستبدة ، إرادة التغيير الحضاري الشامل الذي ينطلق من أسس الثقافة التوحيدية التي تحترم حركة الإنسان وحركة المستضعفين ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون { [القصص/56].
ولذلك فالتشريع الإسلامي نظام حقوقي يستدعي سلطة سياسية تتعهد بتنفيذها .كما أن الدعوة تستهدف هداية الناس مما لا يمكن تحقيقه إلا في إطار سياسي. فالأنبياء عمومـا – والرسول صلى الله عليه وسلم خصوصا – انطلقوا في مواجهة المجتمعات الجاهلية ورموز أنظمتها على أساس جهادي قوامه فكر توحيدي يخطط وينظم ويؤسس لعمل سياسي.
وينتقل بنا مالك إلى أوروبا للحديث عن “الشعور الديموقراطي” الذي أرجعه إلى كونه نتيجة ومآلا طبيعيا لحركة الإصلاح والنهضة التي عرفتها أوروبا خاصة، رغم أن الأمر ـ في مقارنته بالمرجعية الإسلامية ـ يحتاج إلى المزيد من الحذر فقد يتصور المرء في بادئ الأمر أن الغرب يمارس ديمقراطية حقيقية غير أن من يطالع الأوضاع وخلفياتها الخفية يرى صورة عن الديمقراطية لا روح فيها وشكلا من حرية الانتخاب لا وقع له، فالإنسان في تلك الديار (والتي خبرها مالك بن نبي عن قرب) مسير بفعل العوامل الدعائية التي تملكها شرذمة من أصحاب الثروة والنفوذ والمصالح ، فالإنسان الغربي يمارس ديمقراطية كاذبة لأنه لا يختار إلا تحت التأثير الإعلامي من تريد تلك الشرذمة من أصحاب المصالح والنفوذ لا ما يريده هو في قرارة وجدانه أو يحكم به عقله وتقتضيه مصالحه27.
إن مالك بن نبي ـ أحد كبار أقطاب “الاستغراب” ـ والذي قضى قسطاً كبيراً من عمره محتكاً بالمجتمع الغربي ومفكريه وفلاسفته علم أن الديمقراطية الغربية متخلفة في جانبها التطبيقي وإن كان يرى الأخذ بإيجابياتها المنسجمة مع الإسلام. لقد علم أن الإنسان في الغرب ينتخب تحت تأثير الأجهزة الإعلامية والدعائية الفعالة والمؤثرات ما ظهر منها وما بطن (الجلية والخفية) ، ينتخب من تروج له دعايات أصحاب الشركات والمعامل الكبرى أو من تدعو له الراقصات والمغنيات والعاهرات الحاملات لصور المرشح على صدورهن العاريات ، ناهيك عن شراء الأصوات والتحالفات المصالحية، لذلك إن انتخاب مرشح شرذمة معينة لا قيمة له في ميزان العدل والحق الإسلاميين إذا كان الشعب سياق مثل القطيع إلى صناديق الاقتراع كما يصور مالك بن نبي الانتخابات في الجزائر على عهد الاستعمار الفرنسي وأذنابه، ولذلك نجد مالكاً يركز على تحليل “البنية الداخلية للديمقراطية”، و”التربية الديمقراطية ” نحو الأنا والآخر والشروط الاجتماعية …
إن هذا المعنى لا يمكـن سحبه على البلـدان الأخرى ولكن “الشعور الديموقراطي” – عامة – هو “نتيجة لاطراد اجتماعي معين، فهو بالمصطلح النفسي الحد الوسط بين طرفين كل واحد منهما يمثل نقيضا بالنسبة للآخر “28. مثل المستعبد والمستعبد والمستبد والمستبد به، والإنسان الذي تتمثل فيه قيم الديموقراطية هو ذلك الذي يمثل الحد الإيجابي بين ” نافية العبودية ونافية الاستعباد ” هذا هو المقياس” الذي تقاس به الأشياء بالنسبة إلى أي تطور ديموقراطي سواء كواقع اندثر في طيات التاريخ أو كمشروع نريد تحقيقه في واقع مجتمع “29.
إن تطورا من هذا النوع هو في حقيقة الأمر عملية تصفية للإنسان حين يتخلص من رواسب العبودية ونزعات الاستعباد بصفتهما صورة مشوهة للشعور الديموقراطي . فالعبد الذي يقول “نعم” في كل الظروف يكرس سلبية معناها رغم إيجابية لفظها . “إن” نعم “هنا تساوي نافية ، تلغي قيمة الـ ” أنا ” والذات أي أنها تنفي القاعدة الأساسية التي تبني عليها الديموقراطية في نفس الفرد الشعور الديموقراطي”30، وإن المستبد المستعبد صورة أخرى لنفي للآخرين.
ويورد مالك – للتمثيل -ذلك الحوار القرآني الذي دار بين فرعون وموسى في سورة طه ، ذلك الحوار الذي يعطي صورة كافية للاستبداد في شخص فرعون الذي لا يعبر عن نافية إزاء ” الأنا ” بل عن نافية إزاء الآخرين، يقول تعالى : ” قال فمن ربكما يا موسى ؟ قال : ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. قال: فما بال القرون الأولى؟ قال : علمها عند ربي في كتاب ، لا يضل ربي ولا ينسى، الذي جعل لكم الأرض مهادا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى، كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى، منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى. ولقد أريناه آياتنا فكذب وأبى، قال : أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلناتينك بسحر مثله، فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى . قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى. فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى. قال لهم موسى : ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى. فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى .قالوا: إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى ، فأجمعوا كيدكم ثم إيتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى. قالوا : يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى. قال بل ألقوا ، فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى” [طه 47-65] إلى قوله تعالى: } قال : آمنتم قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم من خلاف { [طه/69]، ففي الطغيان السياسي”وجدنا أن فرعون لا يريد أن يحكم الإنسان فقط ولكنه يريد أن يحكم الأرواح والضمائر .. ولذلك عندما آمن السحرة فهو يقول لهم باستكبار واستنكار “آمنتم له قبل أن آذن لكم” فهو ينتظر أن يكون الإيمان والكفر بإذن منه هو…”31 ، “فقد أنكر عليهم أن يؤمنوا قبل أن يأذن لهم كأن عملية الإيمان تحتاج إلى الإذن الفرعوني كما يحتاج إليها أي عمل آخر يتعلق بقضايا الإدارة والحياة، ولكن تلك هي سيرة الطغاة وعقليتهم في كل زمان ومكان عندما يريدون أن يملكوا على الناس عقولهم وأفكارهم فلا يفكرون إلا بما يقدمونه لهم من أفكار ولا يؤمنون إلا بما يدعونهم إليه من عقيدة، فالتفكير ممنوع، والإيمان محرم بدون الإذن الرسمي من قبل السلطة الرسمية التي تملك العقول كما تملك الأجسام والأعمال (نافية الآخرين)”32 ، ثم يحاول أن يخفف عن نفسه وقع الصدمة وحرج الموقف -يقول محمد حسين فضل الله في الصفحة نفسها-باعتبار أن ما حرث (إيمان السحرة بموسى) يشكل نقطة ضعف في سلطانه لأن المتمردين (السحرة) هم من أتباعه المقربين، فيحاول أن يصور لنفسه وللآخرين أن القضية ـ من البداية ـ لم تكن تمرداً عفوياً يصدر عن قناعة بالدعوة الجديدة ورفض للسلطة القديمة بكل ما تملكه من أفكار، بل كانت مؤامرة سابقة مدبرة بين موسى وبين هؤلاء السحرة باعتباره أستاذهم الكبير الذي علمهم السحر وأرادهم أن يقوموا بهذه التمثيلية لإظهاره في موقف المنتصر في مقابل فرعون الذي يقف موقف المهزوم ،ولم يفلح تهديده .. بل وقفوا موقف اللامبالاة أمام كل صرخات التشنج التي يطلقها فرعون ليقولوا له بكل قوة: إننا لن نؤثرك على ما شاهدناه من البينات فافعل ما تريد … إنه الموقف الرائع والنموذج العظيم للإيمان الصامد أمام الكفر الطاغي في أروع صورة للصراع الدامي بين قوى الكفر والطغيان وبين قوى الحق والإيمان “ بين الحرية والعبودية الحقة والشعور الديمقراطي نحو الأنا والآخرين الذي يمثله موسى والسحرة من جهة وبين نفي الآخرين واستعبادهم والذي يمثله فرعون من جهة أخرى .
ونلاحظ –هنا- أن في العمل الرسالي التغييري ليست القضية قضية خاصة ليدخل الداعية المناضل ” الموضوع في حساباته الشخصية أو مركزه العملي، بل إن القضية قضية الفكرة التي يؤمن بها ، والدعوة التي حمل مسئوليتها مما يجعل قضية النجاح أو الفشل قضية الأمة … وربما كان موقف موسى في حواره مع ربه وطلب إشراك هارون معه يمثل القمة في وعي المسؤولية بعمق وإخلاص… إنه الدرس القرآني العظيم لأولئك الذين يفكرون بالعمل الرسالي (التغييري) من زاوية الأنانيات الشخصية والاعتبارات الذاتية التي تمنع الإنسان من التعاون مع أي إنسان كان”.
إن موسى- رمز المستضعفين – من خلال هذا الحوار الشيق مع فرعون – رمز المستكبرين – يقود حركة المستضعفين الغاضبة تجاه تحرير مفهوم العبودية الحقة عبر حوار يعتمد البرهان والدليل والحجة والمنطق، يعتمد منهجا علميا واضح المعالم، هذا المنهج الذي واجهه فرعون بمنهج ” نفي الآخرين ” وإرهابهم : “فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى” [طه/ 70].
إن موسى عليه السلام كان يريد أن يفهم فرعون وبني إسرائيل العبودية الحقة عبر حوار يعتمد البرهان والدليل والحجة والمنطق أي يعتمد منهجا علميا واضح المعالم، هذا المنهج الذي لم يجد معه فرعون إلا منهج “نفي الآخرين” وإرهابهم فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى [طه / 70]، ” والغريب أن فرعون ألحظ فيه ما ألحظه في المستبدين، وهم أن فيهم كبرياء وعناداً وفسوقاً وجحوداً وقسوة قلب عجيبة … وفيهم أيضا إلى جانب هذا كله غباء يستدعي النظر لأنه وهو يطارد موسى ومن معه وجد البحر يخضع لعملية تحول غير عادية… الأمواج تنحدر يمنة ويسرة، ويبدو الطريق يبساً… فكان ينبغي أن يفهم أن هناك حالة غير ما ألف، وغير ما ينتظر . وهؤلاء ـ بعصا موسى ـ عرفوا كيف يشقون طريقهم إلى البحر فكيف يمضي وراءهم ؟ إنه فهم أن البحر سيظل معجزة قائمة من أجله… هذا هو الغباء وهو غباء مألوف في المتكبرين… بل لاحظت أن نهايات هؤلاء الجبابرة تكون من غبائهم الشخصي ، فهم حتى آخر لحظة تكون لهم تصرفات فيها صلف وعمى ينسج على بصائرهم فلا يستطيعون أن يروا إلا أهواءهم “33.
إن موسى عليه السلام كان يريد أن يفهم فرعون وبني إسرائيل أن العبودية الحقة لا تعني إلا الحرية المطلقة من كل مؤثر سوى الله عز وجل، إنها فك قيود الشهوات والولاءات الزائفة. وهذه الحرية تحضر برؤية سياسية عميقة تربط بين التوحيد والتغيير السياسي معا، فموقف الإنسان من الله ومن الشيطان يؤثر على حقيقة الحرية والأسر، ولذلك فالتحرر من الدين انقياد لسلطة الطاغوت الذي يحتاج في تسلطه إلى ثغرة يتسلسل منها إلى داخل الإنسان ليأسره، وقد تكون هذه الثغرة مفهوما ثقافيا أو رغبة دنيوية أو حاجة أو شهوة كما فعل فرعون.
لذلك فمجاهدة هذه المؤثرات السلبية – كما هو حال موسى مع السامري وعجله في سياق سورة طه نفسها – سيؤدي إلى مجاهدة الاستبداد والاستكبار انطلاقا من مرجعية قوامها فكر سياسي توحيدي يقارع الظلم والاستعباد.
وأعتقد أن القرآن الكريم ” إنما قص هذه القصة عن فرعون وبني إسرائيل، ومصير المستبدين سواء كانوا سياسيين أو اقتصاديين أو ماليين، إنما فعل هذا لكي نأخذ عبرة : بأنه ما يجوز ترك حاكم يتفرعن، يجب تقليم أظافر الذين ينزعون إلى الاستعلاء على الخلق وادعاء الألوهية، فإذا كانت السلطة أو الثروة من أسباب الشذوذ فيجب أن تقيد السلطات بحيث لا تغري أحداً بهذا الاستبداد الأعمى ، وأن تقيد الأملاك وأن تراقب فلا تكون سبباً في أن يتألف من أصحاب الأموال طبقات من المترفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون… يقول الشيخ رشيد رضا في المنار : إن موسى ذكر في القرآن 120 مرة، فما ذكر اسم بشر ولا ملك كما ذكر اسم موسى… إن قصة موسى لم تذكر للتسلية، وإنما حتى لا يتحول الخلفاء إلى فراعنة ، وحتى تعرف الشعوب أيضاً أن عبادة غير الله جريمة وأن الرضى بالذل ستكون عقباه الهوان في الدنيا والهوان في الآخرة “34.
وقد نجد أحيانا ما يعبر عن النافيتين معا ( نافيتي الـ”أنا” والآخر ) وذلك حينما يشير أحد القياصرة – مثلا – إلى أحد جنوده فيلقي بنفسه في هاوية سحيقة كأنه آلة تحركت بضغط زر، ” هذا المشهد يتضمن بكل وضوح موقف العبد وموقف الرجل المستبد أي نافيتي الشعور الديموقراطي”35.
إن الحديث عن علاقة الديموقراطية بالإسلام منوط بما ذكرت من العناصر الثلاثة السالفة ( الشعور نحو الأنا، نحو الآخرين، الشروط الاجتماعية والسياسية ) باعتبارها شروطا عامة لوجود ” الشعور الديموقراطي ” في أي بيئة.ويطرح مالك السؤال مجددا: هل الإسلام يتضمن هذه الشروط الذاتية والموضوعية أي نحو الـ” أنا ” و نحو “الآخرين”؟ هل يتضمن ” الشعور الذي يطابق الروح الديموقراطي كما بينا، وهل يخلق الظروف الاجتماعية المناسبة لتنمية هذا الشعور ؟ “36.
وقبل الإجابة، يؤكد مالك على التسليم بداهة أن الإسلام – بفضل تربيته المتميزة للنفوس – يخفف – إن لم نقل يقضي على – كمية وحدة الدوافع السلبية والنزعات المنافية للشعور الديموقراطي والتي تطبع علاقة المستعبد بالمستعبد، وقد أشرنا إلى ذلك سابقا.
إن مالك بن نبي يقر بأن الديموقراطية تحمل مضمونا إنسانيا نبيلا هو حق الآخر في التعبير عن نفسه، لكنها في الوقت نفسه تفتقد القدرة على الصياغة الشمولية: العقيدة والمشاريع والبرامج… ولذلك فهي تمارس بداعي الحاجة إلى تلافي الشقاق وتنظيم الاختلاف الذي ينبت في الأنظمة الفكرية الحرة التي تكتفي بالضوابط العامة وتترك تفاصيل الأشياء ( للناس)، وفي هذا السياق يندرج الإسلام كمنظومة تبرز فيها منطقة الفراغ التشريعي التي تستدعي التدبير والتطلع – بشكل جوهري- إلى الأهداف والمقاصد عبر إطلاق قواعد عامة ضابطة للحركة الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، هذه الحركة التي نجد صداها في البعد التربوي/العقدي الذي يمثل المرجعية الثقافية الأساس للأمة مثل : الرقابة الإلهية والمسؤولية الفردية والجماعية والحرية … وحسبنا ما كتب في مقاصد الشريعة والفقه المقاصدي والاجتهاد المقاصدي من كتب ومصنفات تضاهي أرقى النظريات الغربية في المجال.
إن الكتاب والسنة يقدمان ضوابط عامة تعنى بالمقاصد الأساسية كالعدل والتآخي ومحاربة الفساد… ضوابط مرتبطة بالثوابت لا تدخل في المتغيرات وخاصة في مجال التنظيم والتدبير، مجال عمل الديموقراطية ، بمعنى أن مجال عمل الديموقراطية هو تلك المساحة التي اكتفى منها الشرع بوضع ضوابط عامة أو منطقة الفراغ التشريعي. ومفهوم الديموقراطية – من هذه الناحية – يتكيف مع حرص الإنسان على ضبط اجتماعه السياسي بأقل سلبيات ممكنة.
وفي إطار الجدليات (الثقافة والسياسة، الأخلاق والسياسة، الايدولوجيا والسياسة…) نجد ابن نبي يجعل المشروع الثقافي ضروريا في تأسيس أي مشروع هادف إلى الديموقراطية من داخل منهج يشمل الجوانب النفسية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية. من ذلك يتبين تجاوز مالك للمعالجة السطحية والفهم السطحي لمسألة الديموقراطية، هذه السطحية التي تنشأ عن تناول المعنى الدارج أي في حدود اشتقاق المفردة الأثينية، وبالتالي فالديموقراطية ليست مجرد عملية سياسية ، عملية تسليم سلطات إلى الجماهير. إن الديموقراطية هي “تكوين شعور وانفعالات ومقاييس ذاتية واجتماعية يشكل مجموعها الأسس التي تقوم عليها الديموقراطية في ضمير شعب قبل أن ينص عليها أي دستور، والدستور ما هو غالبا إلا النتيجة الشكلية للمشروع الديموقراطي عندما يصبح واقعا سياسيا”37.
وهكذا يظهر أن الاستعارات السياسية والدستورية التي تأخذ بها دول العالم الثالث لا تجدي نفعا في إقرار واقع ديموقراطي، لأنها وحدها غير كافية إلا إذا صحبتها إجراءات تتعامل مع نفسية الشعب وهويته وتراثه وإقناعه بهذه ” التقنيات الغربية ” .

في المحددات الإسلامية ” للسلوك الديموقراطي”
لاشك أن هذه المعالجة لإشكالية “الإسلام والديموقراطية ” كانت بعيدة في (شكلها) -على الأقل- شيئا ما عن التدليلات الفقهية المعتمدة على القرآن والسنة، ولكنها تبقى لصيقة مع روح الإسلام ومبادئه العامة. و ” مهما يكن الأمر فقد تبين من الآن أن الجواب على السؤال المعروض في هذا البحث – هل توجد ديموقراطية في الإسلام؟ – لا يتعلق ضرورة بنص فقهي مستنبط من السنة والقرآن ، بل يتعلق بجوهر الإسلام بصفة عامة .. إنه لا يصوغ لنا أن نعتبر الإسلام كدستور يعلن سيادة شعب معين ويصرح بحقوق وحريات هذا الشعب، بل ينبغي أن نعتبره في سياق حديثنا كمشروع ديموقراطي تفرزه الممارسة وترى من خلاله موقع الإنسان من المجتمع الذي يكون محيطه وهو في الطريق نحو تحقيق القيم والمثل الديموقراطية “38، معنى ذلك أنه يجب ربط حركة الإنسان المسلم التاريخية بالمبادئ العامة للإسلام حتى لا يزيغ ويضل الطريق الذي أناره القرآن والسنة بواسطة التطبيق العملي الذي عرفه عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، حيث كانت القيادة تستمد مقومات استمرارها في الحكم وبقائها في مواقع السلطة من طريق البيعة الشرعية، من خلال العقد الاجتماعي بين الأمة والحاكم، والتزام القيادة بمشورة أهل الحل والعقد ( ممثلو الأمة) ، بل نجدها تلتجئ إلى رأي العامة – أحيانا كثيرة – في أمور الحرب والسلم، وحصول المعارضة السياسة على حريتها كاملة في التعبير عن وجهة نظرها (عدم مبايعة سعد بن عبادة لأبي بكر رضي الله عنهما مثلا).
1 – التكريم الإلهي للإنسان قيمة تفوق كل القيم.
وإذا تأملنا تاريخ الديموقراطية نجدها تتعدد وتختلف، لسبب رئيسي يعود إلى مرحلة تخلقها ونشوئها في علاقتها بالشروط المذكورة آنفا، ولمقدار تقويمها للإنسان تقويما إسلاميا يكرمه. وإذا تأملنا النماذج المتمثلة في “الديموقراطية الغربية” و “الديمقراطية الشرقية” والتي هي بدورها تتنوع وتختلف، نجدها تستهدف “منح الإنسان بعض الحقوق السياسية التي يتمتع بها “المواطن” في البلاد الغربية وبعض الضمانات الاجتماعية التي يتمتع بها ” الرفيق ” في البلاد الاشتراكية. أما الإسلام فإنه يمنح الإنسان قيمة تفوق كل قيمة سياسية واجتماعية لأنها القيمة التي يمنحها له الله في القرآن في قوله تعالى “ولقد كرمنا بني آدم” [سورة الإسراء / 70] .
فهذا التكريم – أكثر من الحقوق والضمانات – يكون الشرط الأساسي للتعبير اللازم في نفس الفرد طبقا للشعور الديموقراطي سواء بالنسبة لـ “لأنا ” أو بالنسبة للآخرين . والآية التي تنص على هذا التكريم تبدو وكأنها نزلت لتصدير دستور ديموقراطي يمتاز عن كل النماذج الديموقراطية الأخرى “39.
إن النموذج الإسلامي يضفي على الإنسان شيئا من القداسة ترفع قيمته فوق كل القيم الممنوحة من طرف النماذج الأخرى- عندما يكرمه – .
إن الإنسان عندما يحمل في نفسه وضميره وبين جنبيه الشعور بتكريم الله له مستشعرا قيمة هذا التكريم في تقديره لنفسه وللآخرين، فإن الدوافع والنزعات السلبية المنافية للشعور الديموقراطي تتبدد في نفسه.
بالإضافة إلى ذلك فإن الإسلام وضع الإنسان داخل إطار يحده حاجزان حتى لا يقع في هاوية العبودية أو هاوية الاستعباد في قوله تعالى: “تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين” [سورة القصص/ 83] و “إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا : فيم كنتم ؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض. قالوا : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا، إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا” [سورة النساء الآية /96-98 ].
انطلاقا من هذه المحددات الإسلامية يمكن القول بأن ” الديموقراطية ” مغروسة في ضمير المسلم. وإذا أردنا إطلاق “الديموقراطية الإسلامية” أو “النموذج الإسلامي” للديموقراطية ،فإن ذلك يعني تحصين الإنسان ضد النزعات المنافية للشعور الديموقراطي وتصفيتها في نفسه قبل تصفيتها في واقعه .
” أما الديموقراطية العلمانية أو اللائكية فإنها تمنح الإنسان أولا الحقوق والضمانات الاجتماعية ولكنها تتركه عرضة لأمرين، فهو إما يكون ضحية مؤامرات لمنافع معينة ولتكتلات مصالح خاصة ضخمة وإما أن يجعل الآخرين تحت ثقل ديكتاتورية طبقية لأنها لا تصف في نفسه دوافع العبودية والاستعباد لأن كل تغيير حقيقي في المجتمع لا يتصور دون تغيير ملائم في النفوس طبقا للقانون الأعلى: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”“40.
لاشك بعد هذا التحليل المسهب – أن العلاقة العضوية بين الديموقراطية والإسلام بدأت تتضح، ويظهر كذلك الخطأ الفظيع الذي نقع فيه عند استعارة دستور ديموقراطي جاهز من بلاد أجنبية لأن دول العالم الثالث عندما تستعير، لا تنقل الأسس النفسية والتجربة التاريخية التي أملت هذا الدستور، وكأنها تقوم بمشروع ديموقراطي على غير أساس . ولقد بات ضروريا –الآن- التساؤل: هل تكفل الديموقراطية الإسلامية ما تكفله الديموقراطية اللائكية للفرد من حريات سياسية وضمانات اجتماعية ؟
قد يبدو هذا السؤال شكليا لا قيمة له من الناحية المنهجية، مادمنا قد عرفنا ما يربط الديموقراطية بالإسلام في الفقرات السابقة، لكن هذا التساؤل يجرنا إلى “الجانب الموضوعي” بعدما تعرفنا على “الشق الذاتي” للإشكالية المطروحة أي يجب التعامل في المجال التطبيقي عموما مع واقع المسلمين اليوم لا من خلال نصوص دينهم فقط فيما يخص موضوعنا بعدما بينا رؤية مالك التحليلية للمسألة.

2- من النبوة إلى الخلافة الراشدة:خط التحرير الديموقراطي في عصر الرسالة
إن هذه الملاحظة ليست شكلية – كما قلت – لأن دراسة ديموقراطية أثينا – مثلا – لا تستدعي البحث عن مبرراتها في واقع الشعب اليوناني اليوم، ” فلا حرج إذن في اعتبار الديموقراطية في الإسلام، لا في الزمن الذي تحجرت فيه التقاليد الإسلامية وفقدت فيه إشعاعها، كما هو شأنها اليوم، بصورة عامة، لكن في زمن تخلقها ونموها في المجتمع”41 زمن الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين طيلة أربعين سنة تقريبا، ذلك أن كل الأصول النفسية السالفة الذكر قد تم وضعها خلال هذه المدة – مدعمة بمعطيات أخرى – كأساس معنوي “للديموقراطية الإسلامية”. ومن بين هذه المعطيات قوله تعالى: } وهديناه النجدين، فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة، فك رقبة.. {[سورة البلد / 13]. إن هذا التقريع للإنسان ” الحر ” يهدف إلى وضع مسألة الرقيق في ضميره لتأخذ طريقها إلى الحل تدريجيا عن طريق التوجيه النبوي الذي كان يحث المسلمين على عتق الرقاب والرفق بالرقيق في أحاديث متعددة نذكر منها ما يلي:
1 – عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” من أعتق رقبة، أعتق الله بكل عضو منها، عضوا من أعضائه من النار، حتى فرجه بفرجه “42 .
2 – وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” ومن لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه “43.
3 – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “… هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم “44 .
إن هذه النصوص تعتبر تكميلية لبناء الإنسان وتقويمه تقويما يقوم عليه المشروع الديموقراطي الذي يضم في خطوطه العامة مصير الرقيق إلى مصير الإنسان ” الحر ” ونقله من عالم الأشياء إلى عالم الأشخاص لأول مرة في التاريخ .
وينقلنا الأستاذ مالك إلى أجواء حجة الوداع التي كانت فيها خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم وصية روحية خلفها لمن بعده من أجيال المسلمين، مصرحا فيها بأسمى معاني حقوق الإنسان حين يقول : يا أيها الناس، إن ربكم واحد وإن أباكم واحد. كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي و لا لأحمر على أبيض و لا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى45.
” فهذا الحديث يكمل – في مناسبة يملؤها الجلال والتأثير – فلسفة ومنهج الإسلام في المشروع الديموقراطي الإسلامي “46 .
و لاشك أن لهذه الفلسفة وهذا المنهج آثارا تكون أكثر وضوحا في فترة التخلق(أي التكون) الدستوري التي تصب خلالها النصوص النظرية في الحقائق الاجتماعية، في أعمال وسلوك الجيل الذي وضع المشروع الديموقراطي الإسلامي في طريق التحقيق من اليوم الذي أشرقت فيه الهداية المحمدية إلى يوم صفين.
ويتجول بنا مالك خلال هذه الفترة، ويقف بنا وقفات جليلة نستلهم من خلالها النماذج الرائعة من الشخصيات التي بناها الإسلام والتي تربت في المدرسة المحمدية على يد سيد البشرية ومعلمها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، هذه النماذج التي كانت نبراسا ينير طريق المستضعفين في الأرض ويعمل على إعلاء هممهم واستئصال العبودية والاستعباد من فوقها .
بالإضافة إلى ما ذكر، لاشك أن لكل مبدأ نظري – جاء به الإسلام – حدوده في التطبيق ” كالمبدأ الذي يؤسس الحكم الإسلامي على طاعة المحكومين لأولى الأمر كما ورد في الآية الكريمة: ” يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا “ [سورة النساء / 57 ].
إن هذا المبدأ النظري يبين ويقرر امتيازات الحكم، لكن عمر رضي الله عنه يبين في الوقت نفسه الحدود الواقعية لهذا المبدأ للذين عاهدوا على الطاعة والبيعة في خطبته المشهورة عندما قال : من رأى منكم في اعوجاجا فليقومني، فقام له أعرابي قائلا : والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناك بحد سيوفنا “، معبرا بذلك عن التصور الناضج لفكرة الطاعة في ضمير المحكوم وفكرة الرعاية والمسؤولية في ضمير الحاكم: فالطاعة والحكم محدودان في ضمير الحاكم والمحكوم معا. وهكذا تبرز فكرة الحاجزين : هاوية الاستعباد وهاوية العبودية تحقيقا للديموقراطية الإسلامية، حتى أمكننا – كما يقول مالك – القول بأنه في مقابل الشعار الذي رفعته الثورة الفرنسية: (لا نريد ربا ولا سيدا) أعلنت الثورة الإسلامية : “لا نريد عبودية ولا استعبادا “.

3- الحرية والمسؤولية من مرتكزات عصر الرسالة
ويمضي بنا مالك رحمه الله في تحليل عميق للسلوك الديموقراطي عندما يتحدث عن حرية الضمير من خلال قوله تعالى: “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي” [سورة البقرة/254]. وحرية العمل والتنقل المقررة في قوله : “هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه” [سورة الملك /14].
أما حرية التعبير فقد دخلت في العرف منذ الأيام الأولى من العهد الإسلامي، وتبين ذلك من خلال استشارة النبي (ص) لأصحابه وتقبله نقاشاتهم وآرائهم، والسيرة النبوية الشريفة مليئة بالأحداث مثل: يوم بدر واستشارته في تحديد مكان المعركة وتحديد الصداق – فيما بعد – من طرف عمر  ومخالفة امرأة له.
إن الإنسان مسؤول عن حريته في الإسلام، وليست الحرية حالة من حالات انعدام المسؤولية.
ويتحدث مالك عن المسألة ذاتها ويعبر عنها بقوله: إن مشكلة اختيار المثل الأعلى من أهم المشكلات التي تصادف الفرد في إطاره الخاص لتنظيم الطاقة الحيوية، وفي الإطار الاجتماعي (لتوجيه هذه الطاقة الحيوية). ويذكر سؤالا أورده (هيدفيلد) على هذه الصورة: (هل نترك لكل إنسان إذا اتباع الطريق الذي يبدو له قويا إلى المثل الأعلى). وبديهي أن هذه (الحرية) لا تتفق في النهاية لا مع مصالح الفرد ولا مع مصالح الجماعة.ومن ناحية أخرى، لو أننا حرمنا الفرد من حرية الاختيار فسنجعل منه آلة صماء أو مخلوقا صناعيا أكثر من أن يكون كائنا إنسانيا يتصرف في طاقته الحيوية لغايات يلمحها ضميره لمحا جيدا47.
والخلاصة، إن توجيها عاما كان يقرر ويحمي الحريات واضعا لها -في الوقت نفسه – الحدود من خلال الحديث الذي يرويه البخاري:
” مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استسقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا “48.
إن هذا الحد الموضوع لكل حرية فردية في ظروف معينة أساس مهم في التشريع الإسلامي حيث تقدم فيه مصلحة المجتمع على مصلحة الأفراد49 مع العمل على التخفيف من حدة هذا الاستثناء المسلط على الحريات ما أمكن.
ومن مظاهر المشروع الديموقراطي الإسلامي، ذلك التوجه الإنساني الذي لا يفرق بين الناس من خلال معتقداتهم وجنسياتهم… في قوله تعالى “وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل” [سورة النساء/56].
وفي الوثيقة التاريخية التي يجب الاعتزاز بها وهي قول عمر لأبي موسى الأشعري : ” آس -سو، اجعل كل واحد أسوة الآخر – بين الناس في مجلسك و وجهك حتى لا يطمع شريف في حيفك و لا يخاف ضعيف من جورك “50 هذه الوصية التي كان لها الأثر البليغ في مرحلة التخلق الديموقراطي الإسلامي.
إن كل هذه التفاصيل ما هي إلا السمات العامة للديموقراطية -حسب مالك- حتى في أشكالها “حيث أن رئيس الدولة -مثلا- يستلم سلطاته بمقتضى مبايعة الأمة ممثلة في بعض الرجال البارزين خلقا وعملا يمثلون هيئة على نمط مجلس شيوخ يعينون الخليفة بالمبايعة طبقا لمبدأ الشورى الذي يقرره القرآن بصفة خاصة عندما يوحي للنبي صلى الله عليه وسلم ” فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر” [سورة آل عمران/ 159] وبصورة عامة “وأمرهم شورى بينهم” [سورة الشورى /38] .
وهكذا فإن الحكم الإسلامي – حسب مالك – ديموقراطي مصدرا وعملا، والإسلام يتضمن كل سمات الديموقراطية السياسية المانحة للفرد المسؤولية في تأسيس الحكم وضمانات لازمة تحميه من جور الحاكم وظلمه، في الوقت الذي نجد فيه أن تجربة الديموقراطية السياسية في العالم منذ الثورة الفرنسية كانت دائما تدلنا على ضعف حريات الفرد، رغم البريق المحيط بها، ويظهر ذلك جليا من خلال صيرورة “المواطن الحر” عبدا مجهولا لمصالح كبيرة، كما يظهر أن البلاد التي يحدث فيها التباين بين القيم السياسية والاجتماعية تعاني من صراع الطبقات الذي قد ينتهي بتحقيق الضمانات الاجتماعية على حساب الحريات السياسية كما حدث في الدول الاشتراكية، وعليه، فالإسلام ” يبدو وكأنه جمع موفق بين مزايا الديموقراطية السياسية والديموقراطية الاجتماعية “51 التي تهدف إلى توزيع الثروة حتى لا تكون دولة بين الأغنياء و المترفين.
ولذلك كانت الزكاة أساسا تشريعيا اجتماعيا عاما، بمقتضاه يتم اقتطاع جزء من أموال الأغنياء ورده إلى الفقراء. وفي ذلك تدبير اجتماعي لم تستطع الاشتراكية الوصول إليه حتى في أرقى تطبيقاتها.
إن الإسلام يدين كل الطفيليات، وكل الطواغيت بما فيها الطاغوت السياسي والاقتصادي والديني (على شاكلة نظام الإكليروس)، يدين كل ذلك باعتباره يقضي على الجانب الاجتماعي في الديموقراطية الإسلامية حتى لا يقع المسلم في وضع العبد الذي تستعبده الأوضاع الاقتصادية أو أن يصبح مستبدا وبيده صولجان الذهب والمال.
وهكذا يتبين أن المبادئ التي قررها الإسلام في المجال السياسي والمجال الاجتماعي والاقتصادي كانت أساس ما يمكن أن نطلق عليه “الديموقراطية الإسلامية” والتي قد تحققت فعلا في واقع المسلمين، وقد كان أثرها حقيقيا في سلوك الأفراد وفي أعمال الحكم على الأقل في فترة التخلق الديموقراطي”52 هذه الفترة التي حصرها مالك في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلافة الراشدة إلى حدود صفين، ذلك المنعطف التاريخي الخطير في حياة الأمة الإسلامية.
إن حديث مالك عن الديموقراطية كان استلهامها لروح الإسلام الخالدة من الناحية الذاتية والنظرية، واستلهاما لفترة الراشدين بصفتها المحك الذي نجحت فيه الروح الديموقراطية إلى أبعد الحدود من الناحية الموضوعية الاجتماعية التطبيقية مما جعل عالماً جليلاً مثل المرحوم الشيخ محمد الغزالي يقول: “ابن تيمية ـ بلا ريب ـ من شيوخ الإسلام الأكابر، وقد قاتل في جميع الميادين التي فتحتها القوى المعادية للإسلام ضد الإسلام، وكان فيها صلبا قوياً وقد لاحظت أن رأيه في الشورى هو آخر ما وصلت إليه الديمقراطية الغربية لأنه رأى أن اجتماع المسلمين في سقيفة بني ساعدة لاختيار أبي بكر هو الأساس في أن يكون الحاكم حاكماً… فهو رجل متفتح من غير شك من الناحية السياسية ويدري جيداً أن الحكم ملك الأمة وهي التي تستأجر الحاكم لكي يؤدي عنها ما تريد، وإذا ضاقت به عزلته كألوان من العقد الاجتماعي… فهذه هي نظرته في الحكم “53.
ولذلك ” إذا كان المراد بالديمقراطية نظام الحكم المضاد للديكتاتورية فمن الممكن أن ينسجم الإسلام مع الديمقراطية لأنه ليس فيه موقع لحكومة تدار وفق هوى فرد أو جماعة من الأفراد، فأساس القرار في الحكومة الإسلامية وأعمالها ينبغي أن يكون الشريعة لا الهوى أو الهوس الشخصي… (وذلك) شرط مسبق للديمقراطية “54 ، إنه الشرط الفكري والثقافي ـ على حد تعبير مالك بن نبي ـ الذي تعبر عنه الأحكام والتشريعات الإسلامية المستنبطة من القرآن والسنة والمشروطة بالاستعانة بآليات الشورى والإجماع …

4- صدمـة صفـين :
أما فترة ما بعد الخلفاء الراشدين والتي تبدأ من صفين فالكلام عنها يختلف حيث تمثل نقطة التحول في تاريخ العالم الإسلامي والفاصل الذي منع المشروع الديموقراطي الإسلامي من أن يواصل سيره في التاريخ ولكن رغم ذلك فإن آثار المشروع لم تندثر بشكل نهائي، فلا شك ” أن عهد معاوية – مثلا كان من الوجهة التي تهمنا هنا عهد تقهقر الروح الديموقراطي الإسلامي، ولكن إذا لاحظنا أن الطاغية المستبد قد ظهر من جديد في شخص الحاكم الإسلامي يجب أن نلاحظ أن العبد لم يظهر بعد في شخص المحكوم مادام متمسكا بالروح الإسلامي55 كالحوار الذي جرى بين أبي ذر الغفاري56 ومعاوية رضي الله عنهما57، هذا الحوار الذي يعبر عن الرقابة التي يفرضها الضمير الإسلامي ضد الاستبداد والاستعباد، هذا الصدى لم ينقطع إلى يومنا هذا متمثلا في الأصوات الحرة التي مازالت تكابد المحن وتجاهد في سبيل إعادة الإسلام إلى المسرح الحضاري ، ورد الاعتبار لهذه الأمة الخالدة كخير أمة أخرجت للناس، وذلك في شخص الحركات الإسلامية الجادة المجاهدة والمكافحة، والتي لم تزدها الضربات والسجون والتنكيل والمحاصرة من طرف أعداء الأمة على مستوى الداخل المتمثل في الأنظمة الالحاقية أو الاستحمار58 العالمي على المستوى الخارجي ، إلا عنفوانا واتساعا وصدى داخل المجتمعات الإسلامية المستضعفة والمغلوبة على أمرها ، وفي شخص رجالات الدعوة الإسلامية عموما.
إن إشعاع الروح الديموقراطية الذي بثه – ويبثه – الإسلام ينطفئ أو يقل كلما فقد المسلم أساس هذه الروح في نفسيته وعندما يفقد الشعور بقيمته وقيمة الآخرين، إذ أن الحضارة تنتهي عندما تفقد قيمة الإنسان.
والخلاصة: أنه لا تعارض بين الإسلام والديموقراطية باعتبار حركة موضوعها تقع في منطقة الفراغ التشريعي من جهة، ومن جهة ثانية لكون أسسها ومنطلقاتها النظرية – مثل حق الاختلاف – تتوافق مع المفاهيم القرآنية التي اعتبرت الاختلاف سمة ملازمة للاجتماع الإنساني وربما شرطا يضمن دينامية دائمة تساهم في تطور وارتقاء المجتمعات وتحثها على الأفضل دائما لقوله تعالى: “ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم” [سورة هود / 117]، ومن جهة ثالثة لكون الثقافة الإسلامية ذات صدر رحب يحتوي ويستثمر خلاصة التجربة الإنسانية في حدود عدم مصادمتها للثوابت الإسلامية لقوله تعالى :“إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم” [سورة الحجرات 49].
من خلال ما سبق يتضح بجلاء مدى ارتباط الديموقراطية بالإسلام عند مالك بن نبي رحمه الله، بل وتجاوز الإسلام للديموقراطية الغربية والشرقية على حد سواء، ويبدو لي أن تحليلا من هذا النوع، كان جد متقدم لم تستطع كثير من الفصائل الإسلامية الاقتناع به وتبنيه إلا في السنوات الأخيرة.
وجاء هذا التحليل في وقت كان فيه الفكر الإسلامي لا يزال متقوقعا حول نفسه. إذن فمنذ حوالي نصف قرن عمد مالك إلى تحليل عميق اعتمد على علم النفس والاجتماع في تفسير علاقة الديموقراطية بالإسلام، بعيدا عن اللغط الذي يهتم بمعالجة الأشكال والأشباح ويغفل الجوهر والأرواح، وبالسطحية اللغوية، هذه السطحية التي فوتت علينا كثيرا من فرص تطوير الفكر الإسلامي المعاصر.
إن مستقبل الديموقراطية في العالم الإسلامي رهين بتقويم الإنسان تقويما جديدا في إطار المبادئ الإسلامية التي تضع قيمة الفرد وقيمة الآخرين في ضمير المسلم حتى ينأى عن هاويتي العبودية والاستعباد ولن يتحقق ذلك إلا بالنضال والجهاد المتواصل من طرف رجال هذه الأمة المخلصين إلى أن تدك صروح الديكتاتورية والاستعباد والظلم والحيف، ويستنهض واقع الاستضعاف الذي نعيشه منذ عقود طويلة .

خاتمـــــة
إن هذه الورقة ـ في اعتقادي حاولت الكشف عن أفكار هامة تؤكد مكانة مالك بن نبي وعلوها في سماء الفكر الإسلامي المعاصر. ولعلي بهذا أكون قد لامست قضية حيوية من قضايا الاستغراب المتعددة التي عالجها ابن نبي الذي حاول من خلال مشروعه النهضوي التخطيط لنهضة إسلامية شاملة، كأنما عز عليه مفارقة الحياة قبل مساهمته في تبليغ دعوة الحق للأجيال القادمة. ولهذا كان شاهد عصره عن جدارة واستحقاق. فنعم الشاهد الذي يقول: ” إذا أراد المسلم أن يسد الفراغ في النفوس المتعطشة، النفوس المنتظرة للمبررات الجديدة فيجب أولا أن يرفع مستواه إلى مستوى الحضارة أو أعلى منها كي يرفع الحضارة بذلك إلى قداسة الوجود، إلى ربانية الوجود، ولا قداسة لهذا الوجود إلا بوجود الله، والمسلم إذا أتى بهذا لا بلسانه ولا بشطحاته… وإنما كإنسان معاصر للناس شاهد عليهم بالتقوى والورع، بنزاهة الشاهد الصادق، الصادق الخبير، الواعي لقيمة شهادته…”59. ولقد كان نزيها في شهادته، حيث كان لا يعرف المجاملة والمصانعة عندما وقف ضد الفكر المزيف في الجزائر، وضد “البوليتك” التي تخلط الممكن بالمستحيل، بل وضد الحركة الإصلاحية أحيانا عندما لم تستطع ترجمة فكرة الوظيفة الاجتماعية للإسلام على أرض الواقع .
وإنني إذ أقوم بهذا البحث المتواضع، أتمنى أن أكون قد قدمت بعضا مما يجب تجاه هذا المفكر الذي كان مغمورا إلى عهد قريب، وقدمت ـ كذلك ـ شيئا جديرا بالاهتمام إلى الفئة المؤمنة، إلى الذين يبحثون عن الطريق مخلصين جادين في سبيل العزة لأنفسهم وأمتهم، حيث لا عزة ولا علو إلا بالإيمان، ولا فوز إلا للمتقين ولا فلاح إلا للمؤمنين الصادقين، وحيث كل تجارة بائرة ” كاسدة ” مفلسة إلا تجارة الله الغالية.
في الختام، أدعو الله أن يشملنا جميعا برضاه ويمن علينا بأن نكون من الذين قال فيهم: “دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهـم فيها سلام، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين” .

المصدر: الملتقى الدولي: مالك بن نبي : مفكر شاهد ومشروع متجدد من تنظيم جمعية النبراس الثقافية المغرب 2005م,
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحافي وباحث في قضايا الاستغراب في الفكر الاسلامي
2 مختار الصحاح1/972
3 لسان العرب =مادة غرب= 1/639
4 معجم متن اللغة: الشيخ أحمد رضا ج:3ص:311،دار ومكتبة الحياة،بيروت 1988،نقلا عن علي يوسف نور الدين:الاستشراق والاستغراب قراءة نقدية،مجلة شؤون الأوسط،ع:108،ص:99
5 تاريخ الأدب العربي: أحمد حسن الزيات ،دار النهضة للطباعة والنشر،طـ:25 القاهرة، ص:512 نقلا عن شؤون الأوسط،ع:108،ص:99.
6 مقدمة في علم الاستغراب: د.حسن حنفي ،المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع،ط:1/1992،ص:23
7 نفسه ، ص:18.
8 التغريب طوفان من الغرب: أحمد عبد الوهاب، مكتبة التراث الإسلامي،ط:1،ص:15.
9 مقدمة في علم الاستغراب ،ص : 20 .
10 الطريق إلى وحدة الأمة الإسلامية: أبو الأعلى المودودي ص:21 نقلا عن د.محمد عمارة:أبو الأعلى المودودي والصحوة الإسلامية،ص:146
11 نحن والغرب:جدل الصراع والتعايش، عبد الجبار الرفاعي ،سلسلة قضايا إسلامية معاصرة،دار الهادي،ط:1/2002،ص:92
12 إشكالية التحيز:رؤية معرفية وقضايا للاجتهاد،ج:2،ط2،المعهد العالمي للفكر الإسلامي،سلسلة المنهجية الإسلامية، تحريرد.عبد الوهاب المسيري: تحيزات غربية في قضايا نهضتنا الحضارية، بحث مستخلص من أعمال:د.أنور عبد الملك،إعداد:فؤاد السعيد، ص:601.
13 نحن والغرب: ص:93
14 أثر الاستغراب في التربية والتعليم بالمغرب: د/عبد الله الشارف منشورات نادي الكتاب لكلية الآداب بتطوان،ط2،ص:20
15 الاستشراق والاستغراب قراءة نقدية،مجلة شؤون الأوسط،ع:108، ص:102/103
16 نحن والغرب:جدل الصراع والتعايش،ص:94
17 مالك بن نبي : تأملات ، ص : 59 .
18 رواه مسلم : كتاب الإيمان / حديث رقم 9 ، وأبو داود في كتاب السنة / حديث رقم4075، وأحمد في مسند العشرة/ حديث رقم 346.
19 تأملات ، ص : 62 .
20 حميد عنايت : الفكر السياسي الإسلامي المعاصر ، ص : 253/254 ، ترجمه عن الفارسية وراجعه عن الأصل الإنجليزي : د.إبراهيم الدسوقي شتا – مكتبة مدبولي القاهرة ، دون تاريخ .
21 نفسه : ص: 254.
22 تأملات ، ص : 64 .
23 رواه البخاري في كتاب الإيمان /حديث رقم 12 ، ومسلم في كتاب الإيمان / حديث 64، والترمذي في كتاب صفة القيامة / حديث رقم 2439
24 رواه مسلم في كتاب البر والصلة / حديث رقم 4685 ، والإمام أحمد في مسند الكوفيين / حديث رقم 17654
25 تأملات، ص : 65 .
26 معالم الحكومة الإسلامية : محاضرات الشيخ جعفر السبحاني ، بقلم جعفر الهادي ، ص:59، دار الأضواء ـ بيروت ، ط1 ، 1984 ” .
27 نفسه :ص : 70-71.
28 تأملات ، ص : 66 .
29 نفسه ، ص : 67 .
30 نفسه ، ص : 68 .
31 كيف نتعامل مع القرآن : مدارية أجراها ذ. عمر عبيد حسنة مع المرحوم الشيخ محمد الغزالي، ص:174 ط 1/1992، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع-المنصورة والمعهد العالمي للفكر الإسلامي / سلسلة قضايا فكرية (5 ).
32 محمد حسين فضل الله: خطوات على طريق الإسلام ص: 488
33 كيف نتعامل مع القرآن،ص: 178 /179 .
34 نفسه، ص: 180.
35 تأملات ، ص : 70 .
36- نفسه ، ص : 70
37 نفسه ، ص : 71 .
38 نفسه ، ص : 71 .
39 نفسه ، ص : 37 .
40 نفسه ، ص : 75 .
41 نفسه ، 78 .
42 صحيح مسلم ، كتاب العتق ، باب فضل العتق : 21/1147 ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان
43 نفسه ، كتاب الإيمان ، باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده 3 / 1278 .
44 صحيح مسلم ، كتاب الإيمان ، باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ، ولا يكلفه ما يغلبه / ج: 3 .
45 مسند الإمام أحمد بن حنبل حديث ” رجل من أصحاب النبي (ص) ، ص : 411 ، المجلد : 5 ، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر / بيروت ، لبنان .
46 تأملات ص : 79 .
47 مالك بن نبي: ميلاد مجتمع ص:73/74
رواه البخاري في كتاب الشركة / حديث رقم 2313، والترمذي في كتاب فضائل الجهاد / حديث رقم 2099 48 بلفظ ( المدهن ) بدل ( الواقع ) ، والإمام أحمد في مسند الكوفيين / حديث رقم 17647 بإضافة لفظ ( المدهن )
49 تأملات، ص : 79 .
50 من رسالة عمر (ض) إلى أبي موسى الأشعري ، الجاحظ : البيان والتبين – المجلد 1 ، الجزء 2 /ص : 64 – دار الفكر للجميع 1968
51 تأملات ، ص : 84 .
52 نفسه، ص : 87 . ص : 88 .
53 مع القرآن، ص: 159.
54 حميد عنايت: الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، مرجع سابق،ص:257.
55 تأملات، ص : 89 .
56 أبو ذر الغفاري – زعيم المعارضة وعدو الثروات كما لقبه خالد محمد خالد – من النماذج الإسلامية المجاهدة مع النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد وفاته ، حيث وقف في إصرار ينكر على المنحرفين انحرافهم وعلى المتزلفين تزلفهم إلى الحكام على حساب المفاهيم الصحيحة للإسلام عاملاً على فتح عيون المسلمين على واقع ومواقع الانحراف التي بدأت تدب في أوصال الجسد الإسلامي آنذاك ، حتى لا يضيعوا في غمار المفاهيم القلقة . فقد أثاره أن يأخذ بعض المسلمين بأسباب الترف والنعيم مقابل ظهور جماعات فقيرة تتضور جوعاً وتعاني مرارة الفقر الحرمان . ولم يكن يعمل في الخفاء ، بل كانت دعوته علنية على رؤوس الأشهاد: في المسجد والأمكنة العامة على حد سواء، وقد لخص الإمام علي كرم الله وجهه طبيعة موقفه من ذلك الواقع حينما قال له : (يا أبا ذر إنك غضبت لله فارج من غضبت له، إن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، واهرب منهم بما خفتهم عليه ، فما أحوجهم إلى ما منعتهم ، وما أغناك عما منعوك ، وستعلم من الرابح غداً والأكثر حسداً، ولو أن السماوات والأرضين كانتا على عبد رتقا ثم اتقى الله لجعل الله له منهما مخرجاً لا يؤنسنك إلا الحق ولا يوحشنك إلا الباطل، فلو قبلت دنياهم لأحبوك ولو قرضت منها لأمنوك). نهج البلاغة ص : 241 شرح الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ، أشرف على تحقيقه وطبعه : عبد العزيز سيد الأهل ، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع ـ بيروت .
إنها كلمات رائعة لخصت لنا طبيعة حركة ورسالية هذا الداعية المصلح العظيم الذي أراد للحق أن يظهر وللباطل أن يمحى وللرسالة الإسلامية وتشريعاتها السمحة أن تمتد في حياة الناس لتكون حاجزاً بينهم وبين الاستعباد والاستبداد الاقتصادي والسياسي أساساً.
57 – أنظر : * – صحيح البخاري، كتاب الزكاة باب 4 ،حديث 1406 ،مجلد1 /430 ،ط 1992 دار الكتب العلمية – بيروت-لبنان.
عن زيد بن وهب قائلا : مررت بالربدة ( قرية خارج المدينة ) فإذا أنا بأبي ذر الغفاري ( رض ) فقلت له : ما أنزلك منزلك هذا ؟ قال :كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في الآية (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ) التوبة / 34 . قال معاوية : نزلت في أهل الكتاب، فقلت : نزلت فينا وفيهم. فكان بيني وبينه في ذلك وكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة فقدمتها فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك ، فذكرت ذلك لعثمان ( ض )، فقال لي : إن شئت تنحيت فكنت قريبا ، فذاك الذي أنزلني هذا المزل ، ولو أمروا علي جيشا لسمعت وأطعت .
* – كانت شكوى معاوية (ض) إلى الخليفة عثمان (ض) أن أبا ذر قد أفسد الناس بالشام حتى تعالت كلماته على لسان الناس في البيوت والطرقات : (بشر الكانزين بمكاو من نار يوم القيامة). خالد محمد خالد : رجال حول الرسول ص : 70 / 71
*- ويقول أبو بكر بن العربي: ” وأما نفيه (عثمان رضي الله عنه) أبا ذر فلم يفعل ” وعلق محب الدين الخطيب في الحاشية :وإنما اختار أبو ذر أن يعتزل في الربذة فوافقه عثمان على ذلك وأكرمه وجهزه بما فيه راحته .
العواصم من القواصم: ص 60 ،تحقيق وتعليق : محب الدين الخطيب .
58 ) انظر البحث المتميز للدكتور علي شريعتي : النباهة والاستحمار ط2 / 1992 الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع بيروت / لبنان . يقول في ص:43 : ( لابد من مقياس للتطبيق ، فعينان ونظرتان ، ودراية إنسانية ودراية اجتماعية، وأي دعوة أو دعاية، أي كلام أو تقدم ، أي حضارة أو ثقافة وأي قدرة تكون خارجة عن إطار هاتين الدائرتين ليست إلا تخذيرا للأفكار، للانصراف عن الإنسانية والاستقلال والحرية . وهذا التخذير وهذا الانصراف هما تسخير للإنسان كما يسخر الحمار، ومن هنا أطلق على هذا العمل اسم “الاستحمار “) .
59 مالك بن نبي دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين ، ص:39 تصوير 1989 دار الفكر – سوريا .

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.