من ذكرياتي مع مالك بن نبي

عدد القراءات :3275

كيف تم اكتشاف مالك بن نبي؟
في سنة 1956 كتب إحسان عبد القدوس مقالا في مجلة روز اليوسف بعنوان: “الاستعمار في نفوسنا” قال: زارني شخص كاتب (والكاتب عند المصريين ليس مفكرا بل مستخدم في الإدارة) هو مالك بن نبي، وكان جزائريا، استقبلته وصار يحدثني عن مشروعه، قال: فبدأ يحدثني عن مشاريع كثيرة فلم ألتفت إليه كثيرا، فإذا بي أجد أن الأمر جد وأن شيئا جديدا لديه، فإذا بالرجل يغوص في الأعماق وتركني أسبح على وجه الماء، ثم قال: لأول مرة أرى في حياتي رجلا عنده فكر جديد وجدير بالإنصات والكتابة، وأنا هنا سألخص لكم ما قاله الرجل دون أن أدعي أنني استوعبت فكره. كان المقال رائعا جدا ما قرأت مثله، وملخصه أن العرب أو المسلمين ظلوا نصف قرن أو أكثر يحاربون الاستعمار ولم يلتفتوا إلى أنفسهم لتجفيفها وتطهيرها من القابلية للاستعمار، فالاستعمار هو عَرَضٌ فقط، والمرض هو القابلية، فبدلا من أن أصب جهودي لإزالة الاستعمار، يجب قبل كل شيء أن أزيل من وجداني ومن نفسي ومن روحي القابلية للاستعمار، ثم قال: لذا فإنك ستجد فرقا بين الاحتلال والاستعمار، فاليابان وألمانيا محتلان، لذلك تجد أن ألمانيا واليابان في ظرف خمس سنوات من 45 إلى 50 كانت اليابان وألمانيا وصلتا تقريبا إلى بناء مجتمع كله بمرافقه ومصانعه ونظام دولته، ولم تبقيا مثلنا نبكي على الأطلال. مع أن اليابان نزلت عليها قنبلتان نوويتان ذريتان، وألمانيا كانت فوقها 4000 طائرة جعلتها قاعا صفصفا، ومع ذلك فهي في ظرف خمس سنوات استردت ميرسيدس، واستردت صناعتها، وصارت تصدر إلى الخارج وتزاحم فرنسا وغيرها، رغم أن فرنسا كانت هي المنتصرة، وهذا هو الفرق بين الاحتلال والاستعمار.
فلسفة جديدة للتغيير
لذا يجب أن نبني الذات بتغييرها انطلاقا من قوله تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} فبامتزاج الدين والروح الدينية والوحي بالنفس، وامتزاج بين الوقت والأرض والتراب والإنسان، تبدأ الحضارة بالانطلاق، بمعنى أن إعطاء القيمة للوقت أي لزمن الإنتاج والتراب مادة الإنتاج، وللإنسان الذي هو صانع الإنتاج، هو سر الحضارة. عندنا مثلا الهيدروجين والأوكسيجين: هذه مادة وهذه مادة فإذا مزجنا بينهما كان الماء، وما الذي يصنع الماء ؟ هو التيار الكهربائي، الكهرباء نتيجة نهائية للتفاعلات السابقة.
كذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه الوحي، أعطى القيمة الحقيقية للإنسان، وأصبح الإنسان إنسانا، مرتبطا بوقته، أي: إن صناعة الحضارة هي ارتباط الإنسان بوقته وترابه، والتغيير النفسي يبدأ بالثقافة، والثقافة كما تعلمون عنده أربعة عناصر: منظومة أخلاقية مرتبطة بعنصر آخر وهو المنطق التطبيقي العملي وليس المنطق الفلسفي وإنما المنطق العملي الذي يزودك بالمنهج لصناعة شيء بأقل جهد وأقل تكلفة، ثم عنصر الذوق والجمال وعنصر العلم أو التقنية. فلما قرأنا هذا المقال انطلقت أسأل عن هذا الرجل المفكر الجديد فلم أجد من يدلني عليه وذات يوم زرت الأخ الهاشمي الطود (الكولونيل المتقاعد “الطود”)، ووجدت عنده الأستاذ أحمد البقالي والسيد محمد مولاطو رحمه الله، ومحمد بنعيسى (وزير الخارجية الآن)، كنا طلبة جميعا وقال لي: عمن تبحث من الجزائريين: قلت له عن مالك بن نبي، وقال لي ها هو.

أول الغيث
ترجمة شروط النهضة والظاهرة القرآنية
ملخص القصة أن مالكا رأيته في الغد ووجدته يسكن في مكان لا يساوي 40 درهما في الشهر، فقيرا لا يملك شيئا تقريبا مجهولا لا يعرفه أحد، أخذناه وأسكناه معنا، فبدأنا نعمل بعد أن اقتنعنا بأفكاره، وبدأنا بترجمة كتابه شروط النهضة، بدأه الأخ عمر مسقاوي الذي كان يسكن معي أو في الحقيقة أنا كنت أسكن معه لأنه في الحقيقة هو الذي كان له علي الفضل ، وأنهينا الترجمة، وأنا لا أحكي لكم الحكايات ولكن أقول لكم إن الله إذا أراد شيئا هيأ له الأسباب، وإذا أتيته مشيا أتاك هرولة ويفتح لك الأبواب، المهم أن تبدأ بمنهج صحيح ونية صادقة، أما إذا وقفت فلا تنتظر شيئا، فلا يكفي المنهج الصحيح بل لابد من الانطلاق والفعل والأمل، كما هو الحال في الزواج فلا يكفي أن تتزوج بل لابد من التفكير والعمل والتربية للرقي بهذا الزواج، نحو الأفضل..
وذات يوم كنت في محاضرة الدكتور أحمد هيكل وزير الثقافة المصري الأسبق فقال للطلبة ناصحا: ” أنصحكم يا طلاب أن تكون لكم لغة أو لغتان أجنبيتان أو أكثر، لا تقولوا: نحن فقراء أو ليس عندنا مال. انظروا إلى عبد الصبور شاهين، طالب فقير استطاع أن يتعلم الفرنسية وحده وأن يقوم بترجمة بعض المقالات.
وعبد الصبور شاهين شاب عصامي كان في السجن بتهمة كاذبة ملفقة ثم أطلق سراحه، فالتفتّ إلى أحد الطلاب المصريين وقلت له: هل تعرف عبد الصبور؟ وكان في المعهد العالي للتربية في عين شمس. فقال لي ها هو قد مر من هنا، فاتصلت به قلت له: السلام عليكم، هل أنت عبد الصبور شاهين، قال نعم، قلت: أخوك عبد السلام الهراس من المغرب، هل لك أن تترجم كتاب “الظاهرة القرآنية” للأستاذ مالك بن نبي فيكون لك ذخرا في الدنيا والآخرة.
وهكذا بدأنا العمل، ولما قرأ علينا ترجمته لمقدمة الكتاب أخذت أحسن ساعة يد عندي جديدة وقدمتها له هدية مكافأة له على هذا الإنجاز المبشر بالخير، فاستمر في ترجمة بقية الفصول. وانتقل إلى مراجعة ترجمة “شروط النهضة”.
وقمنا بطبع الكتاب في المطبعة، وأثناء الطبع تعرفنا على شخصية مهمة، وهو محمود شاكر، وهذا الأخير عرفنا على الأستاذ سعيد العريان وكان وكيل وزير التعليم، وقد اشترت وزارته أكثر من ألفي نسخة ووزارة الأوقاف اشترت ألفين ونحن بعنا حوالي 800 نسخة، وبذلك تهيأ الكتاب للطبعة الثانية كما أصبح مالك مستشارا لأنور السادات الذي كان رئيس مجلس الشعب والأمين العام للمؤتمر الإسلامي بالقاهرة. وهكذا انطلق العمل، وكنت مرارا آتي لمالك بالطلبة من سائر أنحاء العالم الإسلامي، من أندونيسيا وإفريقيا وماليزيا وسوريا ولبنان، وكنا نجتمع أحيانا أكثر من 30 شخصا وتأتي المخابرات وتسأل، ماذا يفعل هؤلاء، فيقال: هذا مستشار أنور السادات، ومرة ألقوا القبض على أحد زوارنا وأمسكوا به، لأن عبد الناصر كان قد وضع نظاما مخابراتيا لكل بيت تقريبا ” فسألوه أين كنت؟ قال: كنت في زيارة قالوا له: وما كنتم تفعلون ؟ قال أنا كنت أزور اللبنانيين أصدقائي، قالوا وماذا تعرف عن الهراس؟ قال: لا أعرفه: وقالوا: وماذا كنتم تدرسون؟ الإسلام؟ قال أنا نصراني، ولا علاقة لي بالإسلام، فاطمأنوا أننا لا نفعل شيئا.
ومن هناك انطلقت الفكرة، كما يقول الغزالي: “لو تعلقت همة المرء بما دون العرش لأدركته” المهم أن الإنسان إذا أراد شيئا يعتمد على الله. وإذا عزمت فتوكل على الله، لهذا اشتهر مالك بن نبي، وترجمت كتبه إلى كثير من اللغات الإسلامية والأجنبية، وأصبح فكره لا أقول هو الوحيد في الساحة، ولكنه فكر استجاب لطموح الشباب وطموح الأمة إذ أعطى منهجا للعمل وهو الذي يسير عليه الآن عمل كثير من إخواننا ومنهم الداعية الشاب عمرو خالد.
نتحدث الآن عن أهم القضايا التي شغلت مساحة مهمة في فكر مالك بن نبي رحمه الله. ونبدأ بمشكلة الوحدة والتجزئة باعتبارها مشكلة من مشكلات الحضارة؟

مالك بن نبي رحمه الله جاء إلى القاهرةفي سنة 1956 من أجل الدعوة إلى تكوين وحدة أسيوية إفريقية، نعرف أنه كان هناك مؤتمر باندونغ سنة 1955، وهذا المؤتمر كان فيه جمال عبد الناصر و تيتو ونيهرو وسوكارنو، وسيظهر نيكروما في إفريقيا، إن مؤتمر باندونغ كان يعتبر حدثا عظيما لو طبق ما فيه، ومن العجب أن الجانب اليساري كان يشجع مؤتمر باندونغ، وحتى الإتحاد السوفياتي كان يميل إلى باندونغ، وزعماؤنا زعماء التحرير كانوا كذلك يميلون إلى باندونغ، وأنا أعرف أن الأستاذ محمد ابن الحسن الوزاني وعلال الفاسي  وزعماء من العالم الإسلامي المستعمر كلهم حضروا في باندونغ، حيث كان نقطة تحول كبيرة جدا، فمالك بن نبي فلسف فكرة المؤتمر الذي كان يحتاج إلى أسس فكرية، وبين العلاقات والأساسات التي تربط وتوحد إفريقيا مع آسيا، وكان يرى أن هناك عناصر أو أسسا مشتركة بين الإسلام وبين البوذية والكنفوشيوسية وبين الهندوسية أي الجانب الروحي والجانب الأخلاقي.

ولم يكن لهؤلاء السياسيين أي فكرة عن المسوغات البنيوية الأساسية التي يجب أن تنبني عليها الوحدة الإفريقية الآسيوية …

وكنا نعترض عليه ونقول: هؤلاء ليسوا موحدين، يقول: نحن بالنسبة إلينا يهمنا الجانب الأخلاقي وجانب التحرر من الاستعمار، ولهذا قيمة كبيرة جدا، فكلنا نعاني ويلات ومصائب الاستعمار، فهذه بلاد الصين والهند والشرق الإسلامي والعالم العربي، والإسلام الإفريقي هؤلاء عندهم أسس في مواجهة الاستعمار و مبدأ طرد الاستعمار، وهذا شيء له علاقة أيضا بالجانب الروحي و الجانب الفكري، فنحن كنا نرى الحقائق.

أما مالك بن نبي فلم يكن يعيرها أي اهتمام، ومع أن” نهرو” إذ ذاك كان يعامل المسلمين معاملة سيئة وكذلك الصين، فلم نكن نرى تباشير الخير في هؤلاء، وتبين أن هؤلاء الزعماء كانوا يبنون الهند على أسس هندوسية و الصين على أسس بوذية، و كانوا يحاربون الإسلام محاربة لا هوادة فيها إلى الآن، في الصين الآن يوجد 150 مليون مسلم، والسلطات تقول إن عدد المسلمين بالصين لا يتجاوز 30 مليون مسلم، لأن مشروعهم مبني على تقليص عدد المسلمين بهذا البلد إلى هذا الحد ثم القضاء على الإسلام نهائيا، وهذه استراتيجية يتفق عليها العالم كله ضدا على الإسلام. و لا ننسى أنه كان يدعو إلى وحدة المغرب العربي، ومالك بن نبي لم يكن يشعر بأنه جزائري، بل كان ينتسب إلى المغرب الكبير.

باندونغ كان مظهرا من مظاهر الفورة السياسية الراهنة التي كانت تمر بتلك الدول، حركة التحرر في الجزائر، و التقدمية في أندونيسيا والهند، والثورة المصرية والشيوعية اليوغسلافية المستقلة عن موسكو.

فمالك بن نبي وجد نفسه أنه عقل هذا التجمع الذي كان فيه تقريبا ثلاثة أرباع العالم… كان يخشى أن يضيع كتابه عن الأفروسيوية ويغتال هو حتى لا يوصل فكرته لهذا المؤتمر، كان مالك بن نبي مندفعا ليذهب إلى الهند، ولكن السفير الهندي بباريس لم يكن متجاوبا معه، كما أن الحكومة الهندية لم تعر لفكرة مالك بن نبي اهتماما بعد أن كان السفير الهندي هو الذي وعده بأنه سيقوم بطبع الكتاب بالفرنسية و يترجمه إلى الإنجليزية والعربية و إلى غير ذلك من اللغات الأخرى. فماذا يفعل؟ قال له: إن كل ما أستطيع أن أفعله هو أن تعطيني الكتاب وأعمل على تبليغه للسفارة الهندية بالقاهرة، إذاك هرب هو والكتاب…

وخرج من فرنسا دون أن يلتفت لمشروعه العظيم وانقلابه الكبير كما كان يتصوره…

وطبع الكتاب، ولا أظن أحدا قرأه بالفرنسية، طبعته وزارة الإعلام المصرية لأن الفكر الثوري لعبد الناصر لا يختلف عن الفكر الاشتراكي والحداثي و التقدمي اليوم، يعني كلاما فارغا وفورة عاطفية كنار التبن المعزول في الصحراء تشب بسرعة وتنطفئ وتذروها الرياح. عندما ذهبنا أنا ومالك بن نبي والتقينا ببعض المسؤولين على أرض الواقع وجدنا أن هؤلاء أبعد ما يكونون عن التفكير في توحيد العالم الأسيوي الإفريقي، المهم عندهم أنهم طبعوا الكتاب وهذا يكفي !!، فبدأنا نحن من الصفر تقريبا، حقيقة كانت الأرضية أو الجو مزدهرا بالروح الإسلامية التي زرعها علماء أجلاء ودعاة كبار مثل الإخوان المسلمين ومثل الجمعية الشرعية، مثل الجمعيات السلفية التي كانت في مصر و الاتجاهات الصوفية النظيفة البريئة  التي كانت في مصر، فمصر وجدناها مهيأة، ولكن الذي حمل حقيقة روح الدعوة لفكرة مالك بن نبي هم نحن في المغرب وإخواننا في الجزائر، وإخواننا في لبنان وسوريا والسعودية والسودان، وبعض إخواننا في أندونيسيا وغيرهم لما كان لي من علاقات مع طلاب من العالم الإسلامي كله، ونشرنا الدعوة بين هؤلاء الطلاب، فالتقينا بإخوان لنا يحملون نفس الهم و لكن من منطلق إسلامي، لأن منطلق مالك ابن نبي كان منطلقا روحيا فكريا.

 المصدر: الملتقى الدولي: مالك بن نبي : مفكر شاهد ومشروع متجدد من تنظيم جمعية النبراس الثقافية المغرب 2005م.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.