مقدمة مالك بن نبي لكتاب حتى يغيروا ما بأنفسهم
إن المتتبع لأحوال العالم الإسلامي ؛ يلاحظ أن الحركات التغييرية ، التي قامت منذ عصر شيخ الإسلام ابن تيمية ، بل منذ عصر الغزَّالي إلى عصرنا هذا لم يكتب لها النجاحُ إلا في بعض التغييرات السياسية ، كالتي حققتها دولة الموحدين في حدود قيامها بالشمال الأفريقي والأندلس ، حيث كان لها على الأقل دورُ المعطل لحركة التحلُّلِ التي ستؤدي إلى سقوط غرناطة .
أما الحركات التغييرية التي قامت في العصور المتوسطة على اجتهاد فردي ، مثل اجتهاد ابن تيمية فإن أثرها لم يبق إلا في التراث الإسلامي حيث تكوَّن التَرَسَانَة الفكرية التي لا زالت تَمُدُّ الحركات الإصلاحية بالأفكار النموذجية إلى اليوم .
ولكن لم يكن نصيب الحركات التغييرية المعاصرة بأوفر من السابقات ، سواء كانت قائمة على الاجتهاد الفردي ، مثل دعوة جمال الدين الأفغاني ، أو على جهد منظم ، أو شبه تنظيمي ، مثل الحركة السلفية في الجزائر قبل الحرب العالمية الثانية .
وقد يتأتى تفسير فشل هذه الحركات التغييرية على أنها أتت في مجتمع لم يبق فيه مجالٌ للتغيير بالنسبة للحركات الأولى ، أو لم يُفسح فيه بعد مجال للتغيير بالنسبة للحركات المعاصرة . وهذا التفسير المرحلي يقنع من يؤمن بمراحل التاريخ ؛ أي بالدورة الحضارية ، مثل مؤلف هذا الكتاب .
ولكن الأخ جودت سعيد لم يحاول هنا نقل اقتناعه الشخصي إلى القارئ ، بل نراه كأنه يحاول تخليصه من الحتمية التي يتضمنها هذا الاقتناع .
إن كلَّ قانون يفرضُ على العقل نوعاً من الحتمية تُقيدُ تصرفهُ في حدود القانون .
فالجاذبية قانون طالما قيد العقل بحتمية التنقل براً أو بحراً . ولم يتخلص من هذه الحتمية الإنسان بإلغاء القانون ، ولكن بالتصرف مع شروطه الأزلية بوسائل جديدة تجعله يعبر القارات والفضاء ، كما يفعل اليوم .
فإذا أفادتنا هذه التجربة شيئاً ، إنما تُفيدنا بأن القانون في الطبيعة ، لا ينْصِبُ أمام الإنسان الدائب استحالة مطلقة ، وإنما يواجهه بنوع ن التحدي يفرض عليه اجتهاداً جديداً للتخلص من سببيةٍ ضيقة النطاق .
وكأنما الأخ جودت سعيد ينقلُ هذه القضية من مجال الطبيعة إلى مجال التاريخ .
إن من يؤمن بمراحل التاريخ مثله قد تستعصي عليه فكرة تطويع التاريخ لمبدأ التغيير ، مع هذا فهو يحاول تخليص مفهوم التغيير الاجتماعي من قيود السببية المقيدة ، كما تربطه بها النظرة الشائعة عند المؤرخين ، أمثال ج . أ . طوينبي ، الذين يرون أن الأشياء في التاريخ تسير طبقاً لسببية مرحلية .
والأَشياءُ تَسيرُ فِعْلاً كَذَلِكَ إِنْ تُرِكَتْ لِشأْنها .
وإنما الأخ جودت سعيد يعلم ، كمسلم متشبع بالثقافة الإسلامية ، أن التغيير ، أي التاريخ ، يخضع أيضاً لقانون النفوس .
فتصفية هذه المناقضة هي بالضبط محاولة الأخ جودت سعيد ، إننا نراه يتخذ كمحور لكتابه ، الآية الكريمة :
« إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ » الرعد –11- ويتخذ من بعضها عنوان هذا الكتاب .
وبذلك تتغير وجهة النظر في سير التاريخ ، إذ أن المراحل التي تتقبلُ أو لا تتقبل ُ التغيير حسب طبيعتها ، تصبح مراحل قابلة كُلها للتغيير ، لأن الحتمية المرتبطة بها أصبحت اختياراً يتقرر في أعماق النفوس .
لقد أشادت أيضاً الحركات التغييرية التي سبقت في العالم الإسلامي بهذه التبرك بكلام الله ، والتفاؤل به ، بحيث لم يكون بيدها في حقيقة الأمر وسيلة تغيير ، أو إذا شئنا قلنا ية الكريمة مُجرد المحتوى الغيبي ، حتى انه يمكننا القول بأن المفعول الاجتماعي للآية ، قد عُطِّل بهذه الطريقة .
ولعل اتخاذ الآية كمحور ، وكعنوان ، لهذا الكتاب يكون له – وفي هذه الظروف بالذات ، حيث تنتهي تجارب الجيل السابق – أثره في تجربة هذا الجيل ، إذا قام بالتغيير الذي لا زال العالم الإسلامي ينتظره .
طرابلس 18 ربيع الأول 1392 2 مارس 1972