معرفتي بمالك بن نبي
د. خالص جلبي
عام 1905م يشهد على ولادة ثلاث عبقريات: فأما الأولى فكانت في الفيزياء النووية دشنها (آينشتاين) في نظرية النسبية الخاصة، وأما الثانية فكانت في الفلسفة، فشهدت ولادة فيلسوف الوجودية (سارتر) الذي كتب حتى عمي، وكان من أغزر من كتب، والثالثة كانت في علم الاجتماع الذي جدد سيرة ابن خلدون، وجاءت من مهندس كهربائي من خارج حقل علم الاجتماع كما هو دأب المبدعين، وكانت من مغربي هو المفكر الجزائري (مالك بن نبي)، كما كان الحال مع ابن خلدون من تونس.
كان أول تعرفي على مالك بن نبي عام 1971م عندما حضر إلى دمشق وكنت جديد التخرج من كلية الطب فترك في نفسي انطباعا لا يزول. وأول مشكلة واجهتنا في زيارته أنه اعتقل في بيت قيادي إسلامي ـ بكلمة أدق حيل بينه وبين اجتماعه بالناس ـ بحجة أن اجتماع بن نبي مع الناس سوف يعرضه للاعتقال؟ ولذا فبدل أن تعتقله قوات الأمن البعثية قام صاحبنا الإسلامي باحتجازه في بيته حتى فك الله سراحه فاجتمع به الناس كل يوم ولمدة شهر كامل. وكانت حجة الوداع، فمات الرجل بعدها بسنتين بنزف دماغي في الجزائر، وهو في قمة عطائه، وكنت يومها في معتقل الحلبوني عند الرفاق، فرأيت في المنام وكأن شبحه زارني، بعدها نقل لنا ونحن في ظلمات الحبس البعثي أن مالك بن نبي مات. رحمه الله في المجددين.
وتذكرني قصة اعتقاله في بيت الإسلامي بقصة الشيخ العربي التي رواها لي بن نبي شخصيا؛ أنه تحت الاستعمار الفرنسي أرادوا توزيع بعض المنشورات؛ فقال البعض في جمعية العلماء الجزائرية: ولكن الفرنسيين سوف يصادرونها فقال الشيخ العربي: فلنترك الفرنسيين يصادرونها وليس نحن؟ وهذا ما حصل مع القيادي الإسلامي في دمشق، فقام باعتقال مالك بن نبي بدل أن يعتقله البعثيون ؟
والرجل بعد أن خرج على الناس من حبسه الإسلامي دعا وشرح وتحدث إلى جمهور عظيم في مدرج جامعة دمشق فلم يعتقل ولم يؤذ، وهذه القصة تقول أن عقولنا تمشي في متاهات تجربة الفئران.
مالك بن نبي مفكر جزائري ولكن أقل الناس استفادة منه الجزائريون، فحز الأعناق وشق الرؤوس بالفؤوس أجدى من التفكير. ومزمار الحي لا يطرب. وفي الإنجيل لا كرامة لنبي بين قومه. “كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون؟ أتواصوا به بل هم قوم طاغون؟”
ومالك بن نبي قال إن المجتمع لا يولد ولادة فعلية إلا بالتخلص من عالم الأشياء والأشخاص إلى عالم الأفكار. وهذا يصطدم مع الأصنام المشرعة في كل زاوية من كل شارع عربي، وحسب بن نبي فإن الطفل ينتقل في العادة بين ثلاث عوالم طبقاً عن طبق، فهو في البدء لا يفرق بين حلمة الرضاعة وثدي أمه، أو الأفعى ورجل المخابرات، ثم ينتقل إلى عالم الأشخاص فيعرف أمه من أبيه، من القائد الثوري الذي يمدح على مدار الساعة ولو كان أنفه أطول من خرطوم الفيل، ثم يودع في النهاية المجسمات إلى المجردات، وكذلك يحصل في المجتمعات التي تنتقل من عبادة الأوثان والأشخاص إلى الفكر، وبمقدار تحرر المجتمع والأناسي من عبادة الأشخاص والأوثان إلى عالم الأفكار فهي مؤشر نضج، وإلا كانت في حالة صبيانية، وهي الكلمة الصادمة الموجعة التي قالها الرجل في وصفه القيادة البعثية وهي تستغيث العالم في كارثة 1967م، ومنها إعلان سقوط الجولان قبل أن يسقط؟ فتصرفت كما يتصرف الطفل وهو يواجه المشاكل بالصراخ والبكاء ورفس الرجل على الأرض.
قال الرجل هذا الكلام وهو يعرِّف مفهوم (الثقافة) وأن الطفل يمتص إلى اللاوعي مجموعة من المفاهيم ترسخ فيه مجموعة من الآليات السلوكية على أشكال شتى، ومنها تصرف القيادة البعثية حيال الأزمة، ولو كانت القيادة غير بعثية لما اختلفت في كثير عن هذا، ويومها علل الهزيمة عام 1967م كل من البعثيين والإسلاميين أن الطرف الآخر هو السبب في الهزيمة؛ فأما البعثيون فوصفوا فريق المتدينين أنهم رجعيون أسطوريون، وأما المتدينون فعزوا الكارثة إلى زندقة حزب البعث الذي خذله الله، وأنه لايعز من عاداه ولا يذل من والاه. ولكن الهزيمة كانت لكل الفرقاء، بل إن فريق المتدينين انهزم أمام البعثيين الذين انهزموا أمام الآلة الصهيونية فكانوا أضعف من البعثيين الذين ينعتهم الإسلاميون بالملحدين؟
وكنا يومها نسمع له في مدرج جامعة دمشق وهو يتكلم عن مائدة مستديرة عقدت في فرنسا لفهم أبعاد كارثة 67م في حرب الخامس من يونيو حزيران،فصعقنا وأدركنا أننا مثل فئران التجارب بدون علم منها، وقال بن نبي يومها أن أزمة الخامس من حزيران لم تكن هزيمة عسكرية بل أزمة حضارة دلفت إلى ليل التاريخ. وكل كتب بن نبي أخذت هذا العنوان (سلسلة مشكلات الحضارة).
ومالك بن نبي كتب بلسانين العربي والفرنسي ولكن لم يستفد منه لا العرب ولا الفرنسيون، إلا في رصده ضمن دوائر الصراع الفكري كما أشار إلى ذلك في كتابه (الصراع الفكري في البلاد المستعمرة) عن لعبة المرآة.
وكتبه التي زادت عن عشرين باللغة العربية لم توقظ العرب بأكثر من همسة في أذن نائم يشخر؛ فالعرب يريدون كلاماً لا يوقظ نائماً ولا يزعج مستيقظاً، وهم مشغولون بقضية فلسطين، والرجل قال لهم إن مشكلة فلسطين جانبية ونتيجة وعرض لمرض أكبر وأعمق وأشد استفحالا وجذرية وخطرا. تحت مفهوم ثوري طرحه الرجل عن (القابلية للاستعمار) الذي هو انهيار الجهاز المناعي والاستعداد الخفي للمرض. وهو مرض ثقافي أصاب العالم الإسلامي برمته، أكثر منه سياسياً، وحين لم تستعمر اليمن فمرد ذلك للصدفة، ومن تحرر مثل سوريا فمرده للظروف السياسية، والتحرر الفعلي لم يأت بعد، وهي عملية انفصال عن رحم الآباء كما ينفصل الجنين عن مشيمة الأم، وهو نازف ومؤلم، وهو أمر لم يحصل بعد، ومن هنا كانت أفكار مالك بن نبي صادمة موجعة مدهشة. ومن هنا تعسر مخاض الدخول إلى المعاصرة، ومن هنا كان حال العرب مثل الذبابة التي تطن في زجاجة فارغة بدون الاهتداء إلى العنق، وبذلك خسر الرجل جمهوره من الثوريين والقوميين حين قال أن مؤشر نهضة الأمة هو كثرة الحديث عن النقد الذاتي والقابلية للاستعمار أكثر من الاستعمار، مما دفع جودت سعيد الذي تابع نهجه في سوريا إلى القول: “إن مالك بن نبي صدمني حين تكلم عن القابلية للاستعمار لأنني كنت لا أسمع ولا أقرأ إلا إدانة الاستعمار والصليبية والماسونية والصهيونية….الخ. فكل متكلم في العالم الإسلامي كان يتكلم عن خبث الأعداء وتخطيطاتهم، ولكن من الصعب عليهم أن يتكلموا عن القابلية للاستعمار، بل يتهم من يتكلم عن القابلية للاستعمار أنه في صف الأعداء”
يعتبر المفكر الجزائري (مالك بن نبي) طرازاً غير تقليدي من مفكري المسلمين المعاصرين، فهو عاش بين ثقافتين العربية والفرنسية. وأقل الناس معرفة بالرجل هم الجزائريون، حينما استبدلوا الفكر بالقتل، وفكر الرجل وكتاباته انتشرت في الشرق أكثر من الغرب، ويعتبر (جودت سعيد) السوري من أهم تلامذته المشرقين، وقد أكون أنا أيضاً ممن استفاد من كتابات الرجل حينما زارنا في دمشق فلازمته شهرا كاملاً، وسافرت معه إلى بيروت وكان يتابع نشر كتابه دور المسلم في عالم الاقتصاد، ونقلت عنه كتابيا فكرته في كتاب له لم ينشر حتى الآن في نظريته حول عقيدة الصلب عند المسيحيين، وصارحني أن نشر كتاب من هذا النوع قد يجلب له الصداع، وتختصر نظريته بنجاة المسيح ومن نفس النصوص الإنجيلية، ومما أسر إلي أيضا وأنا بجانبه في طريق السفر إلى بيروت أن مدحه لعبد الناصر في كتبه كانت زلة، وبتعبيره كان صنما لا يضر ولا ينفع، وهذه كانت من مقاتل كتاباته فقد انصرفنا عنها لفترة لأننا كنا نرى بطش عبد الناصر في الوقت الذي كان مالك بن نبي يمدحه بكلمات لا يستحقها، وهذه مشكلة السياسيين وبن نبي أصابه من رذاذا هذا المستنقع شيئاً، كما كان شديد الوسوسة في رجال المخابرات يراهم عن اليمين والشمائل حيثما تلفت، وكان يغلق باب بيته بالعديد من الأقفال خوفا منهم، والأقفال لن تغني عنه شيئا ولو كانت أقفال خزائن قارون. والرجل كان مسلم القلب مهتم بنهضة المسلمين. ولكنه اطلع على إضافات المعرفة وجدلية المعاصرة. وكان من ناحية المهنة مهندسا كهربائياً، ولكنه مارس حرفة الفكر أكثر من مهنة الكهرباء. وعاش فترة الاستعمار الفرنسي، وأحزنه تخلف المسلمين، وشارك في النضال السياسي، ودخل مصر لاجئاً سياسياً، وكتب قسم من كتبه باللغة الفرنسية التي كان يتقنها وكان يعرف الحضارة الغربية كخبير وليس كسائح، وزوجته الأولى كانت فرنسية مسلمة عاشت معه المعركة الفكرية وهموم المطاردة والتنقل، وبعد فترة الاستقلال الجزائري عين وزيرا للتربية لفترة، وتوفي في عام 1973م عن عمر 67 سنة بسبب نزيف دماغي حيث وافته المنية وهو في أفضل فترات عطائه، ومازلت أتذكر الرجل عندما حضر إلى دمشق عام 1971م ففوجئ بكثافة جماهيرية غير معهودة تستقبله في المجالس، ولم ينتشر فكر هذا الرجل على أهميته إلا قليلاً في مؤشر خطير على ضعف القابلية في المجتمع العربي للتطور، ويحضرني في هذا أكثر من كتاب أتعجب كيف كتبه صاحبه ولم يستفاد منه حتى الآن كما في كتاب (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) للكواكبي الحلبي، وأحيانا أقارن كتابات الخمسينات فأرى فيها نورا لم يتابع طريقه وإضاءته وتطوره. وكلها مؤشرات سلبية إلى عدم تكون التيار العلمي الجماهيري في العالم العربي.
وأهم خمسة من أفكاره مما طرح هي: فكرة (علاقة الحق بالواجب) و(المعرفة التاريخية) (نهاية القوة) و(عالم الأفكار والأشياء) و(جدلية الاستعمار والقابلية للاستعمار) ، فهو يرى أن من يقوم بواجبه تنشق له السماء ويأتيه حقه، وأن المطالبة بالحقوق فخ للحركات السياسية، فالحقوق لا تؤخذ ولا تعطى بل هي ثمرة طبيعية للقيام بالواجب، وهو ما علمه النبي ص أتباعه فكان أحدهم لا يطلب شيئا ولو سقط منه سوطه وهو على ظهر فرسه. وكانوا رضوان الله عليهم يكثرون عند الفزع ويقلون عند الطمع. وأن الحركات السياسية ضللت الشعوب بمنطق سقيم بالمطالبة بالحقوق، وأن ثلاث معادلات تحكم علاقات الواجبات والحقوق، ففي التساوي يحافظ المجتمع على وجوده، وفي حال فائض الواجبات يحلق وهو ما رأيناه في المجتمع الألماني، وعندما تزداد وتيرة المطالبة بالحقوق يكب المجتمع على وجهه هل يجزون إلا ما كانوا يعملون؟ وهي حال المجتمع العربي اليوم.
وعن المعرفة التاريخية يحلل حركة المجتمع الإسلامي أنه توقف مع معركة صفين عام 32 هـ فكانت أعظم من معركة عسكرية حيث تزحزح مفهوم القيم في المجتمع الإسلامي كما عبر عنها (عقيل ابن أبي طالب) أن صلاته خلف علي أقوم لدينه وان تعاونه مع معاوية أنفع لمعاشه، وكان هذا إيذانا بانشقاق في الضمير الإسلامي، وكل ذيول هذه لكارثة ما زلنا نعاني منها حتى اليوم بتعانق الجبت والطاغوت. قال بن نبي ثم كانت لحظة ابن خلدون حيث انكسر مخطط الحضارة الإسلامية حتى انطفأت. ولذا فهو كتب كل شيء وفسر كل شيء في نقطة الانبعاث الحضارية، بما فيها الغناء والموسيقى حينما سئل عن الحرام والحلال فقال الرجل: أنا أنظر للمسألة من زاوية الحضارة فحين تنحط الحضارة تخرج نغما سقيما وحين تنهض الروح يخرج اللحن أعذب ما يكون. وفي هذه النقطة اشتبك مع الأصوليين الذين ينفون سمة الحضارة عن أي مجتمع ما لم يكن إسلامياً، وهو ما تورط فيه سيد قطب حينما خرج بكتاب له بعنوان نحو حضارة إسلامية؟ ثم غير العنوان إلى نحو مجتمع إسلامي، وقال في تبرير التغيير إن كلمة إسلامي تعني تلقائيا الحضارة، مما دفع مالك بن نبي للتعليق إنها آليات غير ذكية للتعويض النفسي.
وأبدع الرجل في فهمه أن القوة ألغت القوة وعلى نحو مبكر، وهو الذي وصلت إليه أوربا بعد أن جربت كل أنواع الحروب الدينية والقومية والعالمية وأعلنت العودة للإنسان بدون قوة، وهو ما نراه في الاتحاد الأوربي وتوقف الحروب في الشمال، وبقاءها حيث العبودية للقوة كما هو في العالم العربي، والعراق لم يتغير فيه شيء ولم يتحرر بل استبدل صدام المصدوم ببوش حتى حين، والتحرر داخلي، وهو درس يجب أن تفهمه الشعوب العربية من مصرع صدام، ولكن فهم هذا الشيء أصعب من قطع الأنف بالمنشار بدون تخدير. ويصاب الإنسان بالصدمة حين يعلم أن العرب أنفقوا في نصف القرن الماضي على شراء أسلحة ميتة أثماناً باهظة، وكيف استمرت الحرب بين إيران والعراق لمدة أطول من الحرب العالمية الثانية، فهذه الحرب لم يشهدها مالك بن نبي، ولكن شهد حرب 1967م. وهذا الذي جعله يقول: ” يخطئ المسلم في تقديره عندما يعتقد أن الذي ينقصه هو الصاروخ أو على الأقل البندقية ويتوهم أن هذا هو واجبه العاجل …إلى أن يقول: وسنظل نكرر ونلح في تكرارنا أن أزمة العالم الإسلامي ليست أزمة وسائل وإنما أزمة أفكار”.
وطالما لم يدرك العالم الإسلامي هذه الحقيقة إدراكاً واضحاً فسيظل داؤه عضالاً، وكم ضرب المثل باليابان وألمانيا اللتين انهزمتا بالحرب وفقدتا عالم أشيائهما، ولكن عالم أفكارهما خلصهما من أن يكونا قابلين للاستعمار وهذا السحر ـ سحر الصواريخ والرؤوس النووية ـ لم يؤثر في اليابان، وهو الذي يستهوينا، ولم ينقذ الاتحاد السوفيتي الذي كان يملك من الأسلحة النووية ما يمكنه أن يدمر العالم كله مرات عديدة، من غير أن يأتي عدو يغزوه. والله يقول “ألم تر كيف فعل ربك بعاد؟” ويمكن أن نقول: ألم ترى كيف فعل ربك بهتلر، ونابليون، وشاه إيران، والاتحاد السوفيتي، فهذه الأحداث الجديدة أكبر من الأحداث القديمة قبل نزول القرآن.
فهذا أسلوب جديد في تاريخ الإنسانية، ولم يحدث مثل الاتحاد الأوربي من قبل، صحيح وجدت إمبراطوريات أوسع، حيث كان البحر المتوسط بحيرة رومانية، ولكن لم يكن على كلمة سواء، وإنما كانوا يجدون لذة وسعادة حين يشاهدون على مدرجاتهم الرومانية كيف يصارع الأسرى البؤساء الذين يلقون أمام السباع؛ فيسعدون برؤية هذا المشهد المأساوي. ولكنهم اليوم يلغون حكم الإعدام، وسيصل الناس إلى إعادة تأهيل الإنسان من جديد، فهو لم يخرج من بطن أمه يحمل أفكاراً، وإنما يخرج من بطن أمه يحمل استعدادا للفجور والتقوى.
وفي عالم الأفكار قال إن العالم الثالث ما يحتاجه ليس المادة بل الأفكار وهي فكرة فهمناها مع دخول عصر المعلومات بعد العصر الصناعي وهي التي أشار لها (الفين توفلر) أيضا في آخر مؤلف له، عن النقلة النوعية الجدية في مسير الجنس البشري. وكم كان صادقاً حين ذكر في كتابه الأفروأسيوية “أن إنساناً يجهل إضافات القرن العشرين للمعرفة الإنسانية لا يدخل بين الناس إلا ويجلب السخرية لنفسه”. فأوصلتنا أفكار مالك بن نبي إلى فهم قوله تعالي “وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا” وأن مجرد ظهور الحق يكون سبباً لموت الباطل موتاً طبيعياً، وليس هناك من حاجة لقتله.
وفي فكرته الإبداعية عن القابلية للاستعمار صب في نفس قناة الآية القرآنية عن معنى الظلم، وكيف يقع؟ وباعتبار الظلم الأكبر وهو الاستعمار الذي وقعت في شبكته معظم دول العالم العربي فإنه لم يوجه اللوم بالدرجة الأولى إلى الاستعمار بل القابلية للاستعمار عند الشعوب، وهذا الطرح له أيضاً ثلاث زوايا مفصلية فكرية تؤسس لثقافة جديدة : أولاً انقلاب محاور التفكير ووضع سلم الأولويات بحيث يمشي الفكر سويا على صراط مستقيم وليس مقلوبا يمشي على رأسه .
وثانياً، أن هذا المرض داخلي قبل أن يكون خارجياً وهي علة مزمنة تأسست في منظومة الثقافة العربية منذ معركة صفين حين انشق الواقع عن الضمير وضاعت الخلافة الراشدية.
وثالثا، إن جدوى العمل هي بالتحرر من القابلية للمرض أكثر من جراثيم المرض . ويبدو أن فكر هذا الرجل ضمن هذه المنظومة لم تأخذ تأثيرها في مفاصل الفكر العربي الحديث إلى درجة أن بعضاً ممن كتب في تقييم هذا الرجل اعتبر أن دوره انتهى من الثقافة العربية .
والواقع أن الثقافة العربية لم تستفد منه وهو يمثل ترسانة فكرية وخزان هائل للطاقة الفكرية ولكن لم يستفد الفكر العربي منه حتى الآن تحت نفس آلية القابلية التي تكلم عنها الرجل، وهذا تطبيق ميداني مثير على نفس أفكار الرجل رحمه الله . وعندما رأيته للمرة الأولى في دمشق شدني إليه عقله المنظم، وكيف يستخدم تعبيراته برشاقة هندسية، وأحياناً يقف ويسحب كلمة مما تحدث بها ثم يضع مكانها الكلمة المناسبة تماماً كمثل من يبني بناية فيتقن وضع الأسس وينتهي بالقطع الجمالية والديكور المناسب.
كان آباؤنا يقتلون خلية النحل ليأخذوا العسل. ولكن الإنسان الذي سخر له ما في السماوات وما في الأرض تعلم أن يمسك بالبرق الذي كان صاعقة وينزلها بأمان، ويستخدمها استخدامات لا نهائية كما نعرف في الكهرباء، وتعلم الكثير من قانون الأفلاك، فوضع أقماراً صناعية سريعة وبطيئة تخدم في التواصل. وعلينا أن نكشف قوانين الأفلاك، وقوانين المجتمعات.
إن قوانين الأجرام في الأفلاك ثابتة، وقوانين الجذب والطرد هي التي تحمي الأجرام من التهاوي أو الانفلات، وهذا النظام البديع يقوم على تساوي الجذب والطرد. كذلك قوانين المجتمعات في إبقائها دون التهاوي والانفلات.
ولكن هل نستوعب مثل هذا الزخم الفكري؟
قابل مالك بن نبي جودت سعيد فاستغرب من لباسه وما عمم به رأسه؟ قال له جودت سعيد: إنك سيدي تذكر في أحد كتبك أنك اجتمعت برجل في مصر يلبس الطربوش التركي، فقلت عنه إن الحضارة دخلت من قدميه ولم تصل بعد إلى رأسه، وأنا كذلك؟
الملتقى الدولي: مالك بن نبي و استشراف المستقبل
من شروط النهضة إلى شروط الميلاد الجديد
في إطار تظاهرة تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية
تلمسان 12 ـ 13 ـ 14 ديسمبر 2011 م