مراجعة كتاب “مقومات مشروع بناء إنسان الحضارة” “في فكر مالك بن نبي التربوي”

عدد القراءات :4807

تأليف: د. عمر نقيب.

المؤلف عمر نقيب من مواليد سنة 1958 حائز على شهادة الماجستير في التربية تخصص تعليم اللغات الأجنبية من الجامعة الإسلامية الماليزية، وشهادة الدكتوراه تخصص أسس التربية من جامعة بترا الماليزية. صدر له باللغة الانجليزية هذا الكتاب الذي نحن بصدد دراسته،وآخر باللغة الإنجليزية عنوانه النموذج القرآني للتربية، وكتاب آخر باللغة العربية والماليزية بعنوان “الطريقة الفعالة في حفظ القرآن وتحفيظه“. وهو الآن يشغل منصب أستاذ محاضرا بالمدرسة العليا للأساتذة ببوزريعة، ومهتم بفكر مالك بن نبي التربوي.

“مقومات مشروع بناء إنسان الحضارة في فكر مالك بن نبي التربوي نحو نظرية تربوية جديدة للعالم الإسلامي المعاصر“ هوعنوان الكتاب الذي نحن بصدد تقديمه في هذا المقال ،والذّي ترجع إلى سنة 1430هـ الموافق لسنة 2009م من طرف الشركة اللبنانية الجزائرية بالجزائر العاصمة. يحتوي الكتاب على فصل تمهيدي يقدم فيه الكاتب قصته مع فكر مالك بن نبي وتطور الدراسات حول هدا الفكر، إضافة إلى أربعة فصول. أما الفصل الأول فقد جاء تحت عنوان “مفاهيم تربوية مفتاحية لتناول الفكر التربوي عند مالك بن نبي”حيث تعّرض فيه إلى موقع التربية في فكر مالك بن نبي .أمّا الفصل الثاني والذي جاء تحت عنوان “أسس النظرية التربوية في الفكر التربوي عند مالك بن نبي” فقد عرض فيه الكاتب كمحور أول الإنسان وكيفية تأهيله و تمكينه من الأداء الناجح لوظيفته في التاريخ حسب أبعاد الإنسان المختلفة، ثم محور المجتمع وكيفية البناء السليم له وآليات المحافظة على هدا البناء، ثم محور العلم و المعرفة وأبعادهما ثم محور غايات التربية .وأمّا الفصل الثالث بعنوان “ضوابط صياغة النموذج التربوي المنشود في الفكر التربوي لمالك بن نبي” تعرّض فيه الكاتب إلى ضوابط بناء النموذج التربوي المنشود لكل من الفرد والمجتمع .ثم الفصل الرابع والأخير الذي عرض فيه الكاتب عمر نقيب تحليله النقدي لمنظور مالك بن نبي في تناول المشكلة التربوية في العالم الإسلامي. وفي الأخير، قدّم لنا قائمة عناوين المصادر والمراجع التي تم اعتمادها في إنجاز هذه الدراسة ثم فهرس الكتاب. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا الكتاب هو في الأصل دراسة نال بها المؤلف شهادة الدكتوراه باللغة الانجليزية بجامعة بترا الماليزية وقد ترجمها إلى اللغة العربية لتمكين القارئ العربي من الإطلاع عليها.
مالك بن نبي، مفكر سخرّ قلمه وروحه لخدمة القضية العربية الإسلامية والقفز بها وإخراجها من قوقعة التخلّف الذي دام قرونا. ففكر مالك بن نبي لا ينفّك عن ذلك الوسط الذي ترعرع فيه، إذ لا يخفى علينا أنّه ينتمي إلى بلد عربي إسلامي وهو الجزائر. فقد عانى مالك بن نبي من ذلك الصدام الذي وقع بين المجتمع الأوربي المادي والمجتمع العربي الإسلامي، كما عانى من هذه التجربة نفسيا وفكريا باعتباره مثقفا غيورا على أمته ودينه.
كما لا يخفى علينا أيضا أنّه من خريجي كبريات المعاهد الهندسية الفرنسية كمهندس كهربائي، مما يعني أنه تعرف على الثقافة الأوربية خلال دراسته هناك والتي دامت سنينا من عمره. دراسته هناك كانت سببا في يقظة فكره وشعوره القومي، فتعرفه على الثقافة الأوربية ودوافعها وبواعثها كان سببا في تحرره من قيود هذه الثقافة. فكانت أوربا الأرضية الملائمة التي ساهمت في نمو جذوره الفكرية التي خدم بها القضية العربية الإسلامية من أجل التحرر ومكنته من المساهمة في إعادة بناء فكر يبحث في آليات إعادة بناء تلك الحضارة التي سقطت. كما أنّنا لاحظنا نضوج الفكر البنابي بفعل حرارة المأساة التي مر بها العالم الإسلامي – خاصة الجزائر- فجلّ مؤلفاته تشير إلى فكره الوطن وحسه القومي فكان مثالا حيا لتلك النقلة النوعية في التفكير العربي الإسلامي. فكان رمز التحرر الفكري ،ومنه التحرر من الاستعمار بكل أنواعه.
لقد جمع مالك بن نبي بين قوة إيمانه ونصاعة فكره، باعتباره الدافع المحرك الذي به تحقق الأمة الإسلامية حضورها في التاريخ البشري. إن كل أعمال مالك بن نبي الفكرية سعت لحل مشكلة الحضارة التي يعاني منها العالم الإسلامي بصياغة رؤية منهجية تستمد معالمها من الخصوصية الثقافية للمجتمع الإسلامي، من شأنها تفعيل دور المسلم في التاريخ البشري الحضاري. و ما نستخلصه من دراساته التي جمعها تحت عنوان “مشكلات الحضارة” أنّه ركّز على العامل الإنساني من حيث أنّه سبب المشكلة الحضارية التي نشهدها. ومن أجل هذا حاول مالك بن نبي إيجاد تلك الآليات التي من شأنها أن توقظ العالم الإسلامي من سباته الذي دام قرونا من الزمن بالتركيز على تفعيل دور الإنسان من خلال ما أسماه ب”الاستثمار الاجتماعي”وليس المالي، لأنّ الدول الإسلامية لا تفتقر إلى الموارد الطبيعية، إذ أنّ هذه الأراضي من أغنى بقاع الأرض. فالمهم وكما قال مالك بن نبي في كتابه الموسوم “المسلم في عالم الاقتصاد” هو استثمار الأفراد الذي يؤدي إلى استثمار الموارد الطبيعية و ليس العكس، وهذا الاستثمار إنما يأتي بغرس ثقافة الإبداع والتفكير الأصيل والمحافظة على القيم وهذه مهمة التربية.
وعليه، و قبل الخوض في توضيح عمل التربية التي ترجع معالمها إلى نظرية الحياة التي يؤمن بها المجتمع في الأداء الفردي، لابدّ من توضيح ذلك التقسيم أو التصنيف الذي يقترحه علينا الدكتور عمر نقيب للإنسان في كتابه الذي نحن بصدد دراسته؛ إذ أنه هو سبب رقي المجتمع أو تخلفه، فلقد ركز مالك بن نبي على الإنسان كعامل مركزي لمشكلات الحضارة في العالم الإسلامي لأنه وكما يقول “من الرجل تنبع المشكلة الإسلامية بأكملها”. فبدرجة رقي الإنسان أو تخلّفه يكون رقي المجتمع أو انحطاطه.
و بناءا على دور الفرد في المجتمع ،قسّم د. عمر نقيب حسب المنظور البنابي الإنسان إلى ثلاثة أصناف¬. أمّا الصنف الأول فهو الفرد الخام، الإنسان الطبيعي أو إنسان الفطرة أو إنسان ما قبل الحضارة. فكل هذه المفاهيم تصب في معنى واحد، فهذا الإنسان إنسان بدائي يتعامل مع غرائزه كما ولد بها، فهي التي توجّه سلوكه فينصب اهتمامه على حفظ البقاء والنوع فقط، إلاّ أنّه يتمتع بطاقة حيوية تؤهله للقيام بوظيفته التاريخية والدخول في دورة حضارية جديدة. غير أنّ هذا يرجع إلى الدور الذي تلعبه الفكرة الدينية في تفعيل طاقاته الحيوية، كما يرجع الفضل أيضاً إلى عملية التكييف التربوي الذي ينقله من وضعية الفرد الخام إلى الفرد وضعية المكيّف المتكامل. أما الصنف الثاني، وكما أسماه مالك بن نبي”إنسان الحضارة”؛ فهو الذي تم تكييفه بالمناهج التربوية النابعة من خصوصية المجتمع، فوجهت طاقاته لأداء وظيفته التاريخية وبُنِيت خصائصه ومميزاته تبعا للخصوصية الثقافية لذلك المجتمع، فأصبح مؤهَّلا في المجتمع حسب دوره وموقعه، فتجسّدت فيه خصائص الفرد المنشود داخل المجتمع المنشود الذي نظّمت علاقاته الاجتماعية بما ينسجم وخدمة الوظيفة التاريخية للمجتمع. وهكذا خرج النموذج المنشود من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، على حد تعبير د. عمر نقيب. والفضل هنا يرجع إلى الدّور الذي تقوم به التربية في غرس وتفعيل المفاهيم التي من شأنها أن تحافظ على معايير النّموذج المنشود حسب الخصوصية الثقافية لذلك المجتمع. إلا أنّ هذا النموذج لا يلبث حتى يفقد فعاليته. ولعل هذا التحلل المتدرّج، إنما يكون سببا رئيسيا لتحلل وتفكك العلاقات الاجتماعية والتي تتجلى في صعوبة التفاعل بين أفراد المجتمع. الأمر الذي يحول دون أداء الأفراد لوظيفتهم التاريخية. وهذه المشكلة تمتد إلى أن تشمل التفكير الإبداعي فيصبح الفرد عاجزا عن حل مشكلات الحياة اليومية. وكنتيجة لهذا الوضع فانّ الفرد سوف يعاني من مختلف مظاهر التخلف في أساليب التفكير والتصرف وممارسة السلوك الحضاري، إضافة لهذا وكما أشار إليه مالك بن نبي فإنّ هذه الحالة تعبّر عن أخطر حالات تضخم الأنا باعتبارها ذهنية يختص بها الفرد في المجتمع المتخلف والتي تكون سببا في الأمراض الاجتماعية كالتقليد والمحسوبية والانحلال الأخلاقي وعدم الاحتكام إلى القوانين، والأعظم من هذا كله، فقدان الوعي الحضاري. فتبعا لما قاله مالك بن نبي، فإنّ الشخص، باعتباره فردا تمّ تكييفه تربويا وقد ظهرت عليه علامات التحضّر، سوف يختفي ويسترد الفرد الخام، باعتباره كائنا غريزياً، سلطته داخل المجتمع. وفي هذه الحالة فإنّ الإنسان يتعامل مع الأشياء والأشخاص بلا منطقية ولا واقعية التفكير، وإنّما يتعامل معها وفق غريزته دون السعي لبلوغ وإنجاز المشاريع التي تحقق إنسانيته وجوهره العاقل، وهذا ليتمكن من أداء مهامه التاريخية فيصبح متفسخا حضاريا. وهذا ما اصطلح مالك بن نبي على تسميته “إنسان ما بعد الموحدين” أو إنسان ما بعد الحضارة. فهذا هو الصّنف الثالث من الأصناف الثلاثة للإنسان الذي تخلى عن دوره الحضاري في التاريخ البشري، فعجز بذلك عن أداء أي وظيفة تاريخية تسمح له بالارتقاء؛ فلقد فَقَدَ كل المكونات التي من شأنها أن تحقق له الفعالية لأداء أيّ وظيفة تاريخية.
وفي نفس السياق، نجد د. عمر نقيب قد ذكر ذلك الفرق بين “الفرد” و”الشخص” بالمنظور البنابي. فالفرد يمثّل تلك الوضعية السلبية في ممارسة الحياة، فتصبح مطالبه الغريزية هي الأصل الذي تقوم عليه حياته كلها، فهو لم يخضع لأي تكييف تربوي، وبالعكس من ذلك، فإنّ الشخص هو الذي خضع للتكييف التربوي، بحيث وجّهت طاقاته الحيوية للأداء الاجتماعي الفعّال، فأضفى هذا التكييف دلالة تاريخية على حياته.
وكما أشرنا سابقا، فبالأصناف التي سبق وصف الإنسان بها، تتحدد أيضا أصناف المجتمع. فإنسان ما قبل الحضارة وما بعد الحضارة ينتميان إلى المجتمع الطبيعي. أمّا إنسان الحضارة فهو يمثّل المجتمع التاريخي الذي من أهمّ خصائصه أنه يسعى دائما إلى تغيير خصائصه الاجتماعية، مع العلم بالهدف الذي يسعى إليه. فأهم ما يتصف به المجتمع التاريخي حسب مالك بن نبي، “الحركة” التي تستهدف التغيير نحو الأفضل، فعامل الحركة و أهمّ عامل للبناء والإقلاع الحضاري. وهذا يتمخض عنه التفكير الحرّ الأصيل المبني على رؤية فكرية محددة توجه مسار المجتمع عبر التاريخ وفقا لنظرية الحياة التي يؤمن بها. وهذه الحركة التغييرية تجسّد المثل الثقافية والطموحات الحضارية للأمة لكي تضمن الحضور في التاريخ والمساهمة في صناعة أحداثه؛ أي أنّها تستجيب للرؤية المتكاملة لكل من الفرد والمجتمع. وهذا الوضع إنّما ينبثق من إدراك المغزى من الوجود البشري والوظيفة التي وجد من أجلها فيضفي دلالة تاريخية وحضارية على وجوده. و في المقابل، هناك المجتمع الطبيعي الذي لم يعرف بعد عنصر الحركة التغييرية، إذ أنّ أهم ما يتميز به هذا المجتمع خاصية السكون في الفكر والعمل كما أشار إلى ذلك الكاتب – فهذا المجتمع في الحقيقة متوقف حضاريا وأنّ أكبر همّها ينحصر في الاستجابة لمطالبها الحيوية دون البحث عن وسائل لتغيير خصائص أفرادها؛ فلا يوجد أي مؤشّر يدل على انتقالها من وضعية التخلف إلى وضعية التقدم، ولا يوجد أي استعداد لإحداث أي نقلة تنموية في مثل هذه المجتمعات.
وهذا فعلا واقع المجتمع العربي الإسلامي الذي أكمل دورته الحضارية، حسب مالك بن نبي، بعدما عاش أوجّ الحضارة في عهد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم و من جاء بعدهم، أين مثّل رسولنا الكريم النموذج المنشود فكان قدوة لصحابته الكرام. فقد جسّدوا معايير النموذج فأصبح ذلك المجتمع مجتمعا نموذجيا. ولقد كان هذا نتيجة لذلك الدافع الديني والمتمثل في تعاليم القرآن الكريم و سنة رسوله الكريم صلى الله عليه و سلم، التي حددت المعالم الرئيسية للنموذج المسلم المنشود. كما قام الإسلام بإخضاعه لعملية تكييف شرطية لطاقاته الحيوية وفق ما يتفق و معالم الدين الإسلامي؛ أي أنّه تم بناء النموذج المنشود وفقا للخصوصية الثقافية للمجتمع الإسلامي.
وبناءا على ما قلناه، وعلى ما تعايشه الأمة الإسلامية، يصبح التفكير في سبل الخروج من وضعية التيه الحضاري أمرا لا مناص منه، وأنّ الخروج من هذا الوضع المتأزم والمتخلف الذي شمل جميع مناحي الحياة في العالم الإسلامي ضرورة قصوى، إذ لابد من استرجاع ذلك النموذج المنشود والاستفادة من ماضي الأمة الإسلامية؛ بفعل أن قوانين إعادة البناء هي نفسها قوانين البناء لأول مرة، وأنّ الإطار المرجعي للنهوض بهذه الأمة هو الرجوع إلى التجربة التاريخية الإسلامية والاستفادة منها؛ إذ أنه وكما قال الإمام مالك بن أنس: “لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”، وهذا ما استعرضه المؤلف في الكتاب الذي نحن بصدد دراسته.
وعليه، ولاسترجاع ذلك النموذج المنشود الذي فقدتْه الأمة الإسلامية، لابدّ من إتباع منهج محدد في التربية، باعتبار أنّ التربية هي ذلك النقل المقصود للقيم والمعتقدات والمعرفة والمهارات إلى الأجيال القادمة. كما أنها تمكّن الأجيال القادمة من استيعاب وتمثل المنظومة الثقافية التي يتمتع بها المجتمع أو نظرية الحياة التي يؤمن بها المجتمع.
ولا يسعني في هذا المقام إلاّ أن استعرض ما قاله مفكرنا مالك بن نبي عن التربية إذ قال: “هي وسيلة فعالة لتغيير الإنسان وتعليمه كيف يعيش مع أقرانه، وكيف يكوّن معهم مجموعة القوى التي تغيّر شرائط الوجود نحو الأحسن دائما وكيف يكوّن شبكة العلاقات التي تتيح للمجتمع أن يؤدّي نشاطه المشترك في التاريخ”. إذن: التربية بهذا المعنى ترتبط بمفهوم تعلُّم فنِّ الحياة. وفي سياق آخر يقول مالك بن نبي: “أن نُعلِّم كلّ فردٍ فنّ الحياة، أي أن نعلِّمه كيف يتحضَّر”. ومن هذا نستنتج أنّ مالك بن نبي وبتعبير د. عمر نقيب ربط ربطا عضويا بين التربية و الحضارة. فالتربية كما أوضحنا سابقا هي ذلك النقل المقصود لكل ما تتضمنه المنظومة الثقافية؛ فلكل مجتمع من المجتمعات نظريته عن الحياة التي تستغرق كل ما يتمتع به من ثقافة، ولكي تتواصل الأجيال يجب المحافظة على المنظومة الثقافية، والتربية هي الأداة التي تقوم بهده المهمة.
وحسب رؤية د. عمر نقيب، فإنّ ثقافة كل مجتمع ترسي القواعد التي يسير عليها الفرد و المجتمع، أي أنها تحتوي على تلك المعايير التي تؤسس النموذج المنشود لكل من الفرد و المجتمع، فتأتي المناهج التربوية لتحقيق هذا النموذج والمحافظة عليه. وهذا من خلال ما أسماه الكاتب محلِّلاً الفكر التربوي لمالك بن نبي بعملية استيعاب وتمثل القيم الثقافية. ففي هذه الحالة، هناك ارتباط وثيق بين التربية كأداة، والثقافة كمحتوى تربوي، والحضارة كمنتوج تربوي؛ إذ يصبح الفرد النموذج الذي يمثّل التجسيد الفعلي لثقافة ذلك المجتمع في سلوكه اليومي.

أمّا من منظور آخر، فإنّ التربية هي عملية إدماج الفرد في المجتمع وتأهيله لأداء دوره الاجتماعي المتلائم مع استعداداته الفطرية ومهاراته الخاصة، أي أداء وظيفته التاريخية والدخول في شبكة العلاقات الاجتماعية. ويتم هذا بزرع ذلك الباعث، أو كما أسماه المؤلف الاستعداد النفسي والتربوي والذي تثمر عنه التربية. عندئذ سوف يترقى سلوكه فيتخلى عن تلك السلوكيات والعادات المنافية للنزعة الاجتماعية، ويتحلى بسلوك أكثر توافقا مع نزعته الاجتماعية هذه.
ومن هنا، يظهر دور الفرد في بناء المجتمع، فالتربية تعدّ الإنسان النموذجي الذي يحرك التاريخ. ولهذا، فهي مشروع بناء الحضارة بتعبير المؤلف د. عمر نقيب. وهذا ما يتضح جليا من قول مالك بن نبي: “أن نعلّم كلّ فرد معنى الحياة، أي أن نعلّمه كيف يتحضّر”.
و لقد وقف بنا د. عمر نقيب في كتابه هذا على جانب يعد من أهم الجوانب في تناول فكر مالك بن نبي، ألا وهي الفكرة الدينية. فللجانب الديني أهمية كبيرة في تركيب الفرد والمجتمع. هذا بالنظر إلى الدور الذي تقوم به الفكرة الدينية في تكييف الفرد؛ إذ تنظّم طاقاته الحيوية الغريزية تماشيا مع خصوصية ذلك المجتمع الذي ينتمي إليه. فالدين مقوِّم أساسي لكل مجتمع ؛إذ يبين تلك الخصوصية لهذا المجتمع عن غيره من المجتمعات، كما يساهم في بناء الحضارات. أمّا من جانب آخر، فإنّ الإنسان حيوان ديني بطبعه لا يستطيع الحياة من دون جانب روحي يغذيه.
ومن هنا، يتبين لنا أنّ الدين لا ينفكّ عن التربية، من حيث هو أحد المركبات الأساسية لتكوين شخصية الإنسان. فالتربية تحافظ على هذا المركب من خلال غرس تلك الثقافة الدينية في كل أفراد المجتمع. ومن هنا، يظهر لنا أنّ الحضارة كمثل ثقافية تستغرق كل مكونات المجتمع، ومهمة التربية إذن، هي تجسيد هذه المقومات. وبالرجوع إلى مجتمعنا العربي الإسلامي، فقد حاول مالك بن نبي ضبط وتحديد تلك الآليات التي من شأنها أن تمكّن العالم الإسلامي من إعادة بناء الذات واستئناف دورة حضارية جديدة. فمن خلال هذا البحث، يتبيّن أنّ مالك بن نبي استقرأ التاريخ الإسلامي بهدف استيضاح تلك الظروف التي مكنت العالم الإسلامي من الرقي الحضاري ثم تلك الأسباب التي أخرّته. فلإعادة بناء الحضارة الإسلامية لابد من الاستفادة من التجربة الماضية التي عاشتها الحضارة الإسلامية كما جاء الكاتب بذكره.
إذن: ومن أجل النهوض بالحضارة الإسلامية من جديد، يجب أن تكون التربية أداة لهذا النهوض. فبتعبير د. عمر نقيب، وبرأي مالك بن نبي، فإنّ الأزمة التي تمر بها الأمة الإسلامية، وإن كانت حضارية في طبيعتها، فإنها تربوية في جوهرها. كما ينبغي أن تركّز المشاريع النهضوية على الإنسان بصفته العامل المركزي في أي حدث اجتماعي وحضاري.
فمركزية العامل الإنساني تستدعي إخضاعه لعملية تربوية لصياغة شخصيته المنتمية إلى أمة إسلامية لها خصوصيتها، ومنه يجب صياغة النموذج المنشود لأداء وظيفته التاريخية كما حددها الوحي الإلهي. فالتربية في مجتمعاتنا العربية الإسلامية يجب أن تستغرق الرؤية الإسلامية للإنسان، من أجل استرجاع التربية لحيويتها كما قال المؤلف د.عمر نقيب وزرع ثقافة الإبداع والابتكار في أوساط المسلمين، ومن ثمة التخلص من ذلك التخلف الذي عمّ كل مجالات الحياة باعتباره نتاج المناهج التربوية لعصور الانحطاط. كما أنّ من أهم الأهداف التي يجب أن تجعلها النّظم التربوية من بين أولوياتها هي أنّ الإنسان المسلم المتكامل هو النموذج التربوي المنشود. فبرؤية د.عمر نقيب، فإنّ غموض النموذج التربوي المنشود هي سبب الاضطرابات التي نشاهدها في المنظومة التربوية وهو الذي أدّى إلى تلك الأزمات التي تعاني منها الأمة الإسلامية. فضرورة صياغة النموذج المنشود تزيد إلحاحا لضمان الحضور في تاريخ الحضارات و صنع التاريخ، إذ يقول مفكرنا مالك بن نبي: “يبدأ التاريخ بالفرد المتكامل” فكل مجتمع يسعى لتقديم نموذجه على أنه الأفضل.

ومن هنا، يؤكد لنا المؤلف على ضرورة الرؤية الواضحة لطبيعة النموذج المنشود الذي نسعى إليه، وعن طبيعة العملية التربوية التي تتكفل بإنجاز هذا المشروع وتحقيقه على أرض الواقع. فالانطلاقة لبناء مجتمع تاريخي تتحدد بصياغة فلسفة تربوية تحدد خصائص النموذج التربوي المنشود لكل من الفرد والمجتمع بناءً على الخصوصية الثقافية، وهذا للإسهام الفعلي في مشروع إعادة البناء الذي يحقق طموحات أفراد ذلك المجتمع. وهذه الرؤية الواضحة لمعالم النموذج المنشود هي إحدى الضمانات الرئيسية لنجاح المشروع الحضاري، إضافة إلى تحقيق الانسجام بين الانتماء العقائدي للمجتمع ومطالب الواقع المتغير. فإذا خلا أي مشروع من هذه الرؤية الواضحة للنموذج فإنّ هذا المشروع سوف يفشل. وهذا فعلا ما عاشته الدول العربية الإسلامية في مرحلة ما بعد الاستقلال، ومن بينها الجزائر التي غابت عنها وضوح السياسة التربوية لبناء النموذج المنشود لكل من الفرد والمجتمع، وهذا ما ورد في هذا الكتاب كتوضيح للرؤية البنابية.
وفي ذات السياق يؤكد لنا مالك بن نبي على أهمية التنظير للتربية حسب المرحلة الحضارية التي يمر بها المجتمع، فمشكلات المجتمع تنبثق عن مرحلته التاريخية. وعليه فالجدير بالاهتمام الانتباه إلى قضية تحديد طبيعة المرحلة التاريخية التي تعيشها الأمة الإسلامية، إذ أنّها أُمة أكملت دورتها الحضارية ولا تقوم بأي وظيفة تاريخية. فمن هذه الزاوية بالذات، وعن تحديد المرحلة التاريخية للأمة الإسلامية تتحدد نقطة البدء لاستئناف دورة حضارية جديدة. فهذا يساعدنا على التحكم في آليات حل المشاكل التي يعاني منها المسلم، فعلاج أي مشكلة مرتبط بعوامل نفسية زمنية ناتجة عن فكرة معينة في حدود الدورة التي ندرسها كما قال قال مالك بن نبي. فالتربية تحدد مناهجها وفقا لطبيعة المرحلة الحضارية التي يمر بها المجتمع. فالتربية والحال هذه وتبعا لما قاله د. عمر نقيب تخصّ الإنسان المتخلف الذي سبق وأن أدى وظيفته التاريخية. ومن هنا، يجب النظر إلى هذا الإنسان كما هو موجود في الواقع لتغييره نحو الأفضل، فكيف يمكن تغيير الواقع إذا لم نعرّف هذا الواقع في الأساس؟
إذًا فنقطة الانطلاق في مشروع إعادة بناء الأمة الإسلامية هي الاعتراف بالإنسان المتخلف الذي فقد إمكانياته لأداء وظيفته التاريخية، ولاسترجاع ذلك النموذج الإسلامي الذي سجل حضوره في التاريخ يجب إعادة تكييفه تكييفا تربويا وتفعيل مؤهّلاته وتأهيلها للاضطلاع بوظيفتها التاريخية.
والجدير بالتنويه هنا، وكما جاء بذكره د.عمر نقيب، أنّ النموذج المنشود الذي تسعى لتحقيقه السياسات العربية غير دقيق بالوجه المطلوب، أي أنّ الإشكالية التي تواجهنا هي مشكلة إيجاد النموذج الواضح. أمّا النّموذج الذي تسعى إليه الدول الغربية موجود والإشكالية التي تعترضهم هي مشكلة فهم. فالتربية عند هذين المجتمعين: المجتمع الغربي يتعامل مع واقع ثقافي موجود يسعون لاستمراره من خلال التربية؛ فتربية المجتمع الغربي هي تربية تكيّف لأنّ واقعهم يمثّل أفضل ما تمكنوا من إيجاده، فهذه التربية تتضمن النّقل المكيف لعناصر ثقافة هذا الواقع. أمّا التربية في بلاد العرب والمسلمين فهي التي تسعى إلى أن تعدّ الفرد وتؤهله تربويا بشكل يجعله قادرا على تغيير الواقع تغييرا إيجابيا وتكييفه وفقا للرؤية التي يتضمنها النموذج التربوي المنشود باعتبار أنّ هذا الواقع لا يمثل التجسيد الفعلي للنموذج. و لهذا فتربية هذا المجتمع تربية تكييف تسعى لتجسيد النموذج المنشود المسلم لأداء وظيفته التاريخية المنوطة به تبعا للخصوصية الثقافية للمجتمع الإسلامي. فدور التربية وكما أشار إليه د.عمر نقيب يتلخص في تحضير المسلم لأداء دوره الاجتماعي وليصبح فعالا في مجتمعه يدفعه ويسير به قدما في المسار الحضاري، ينتزع مركب القابلية للاستعمار الذي أصبح أكبر خاصية يتصف بها المجتمع العربي الإسلامي؛ وهذا لكي يصبح الفرد المسلم قادرا على الابتكار والإبداع والمساهمة وبشكل كبير في بناء حضارة المجتمع الإسلامي.

وخلاصة القول، أنّ للمجتمع العربي الإسلامي المعاصر مرحلته الحضارية التي جعلته في هذه الوضعية والتي تعود إلى تلك المشكلات التي تمخضت عن خروجه من الركب الحضاري، وهذا ما يستدعي منا دراسته وفقا لهذه الخصوصية. لذا، على القائمين على المناهج التربوية في بلاد العرب والمسلمين أن يولّوا اهتمامهم بخصوصية المجتمع العربي الإسلامي الذي يتمثل إلى القيم الثقافية والدينية والتي تشكل في مجموعها نظرية الحياة التي يؤمن بها المجتمع الإسلامي. وهذا كله من أجل البناء السليم للنموذج التربوي للفرد المنشود المتكامل والمحافظة عليه.
من خلال مراجعة كتاب “مقومات مشروع بناء إنسان الحضارة في الفكر التربوي لمالك بن نبي” لمؤلفه الدكتور عمر نقيب أتحسرّ على الأمة الإسلامية التي فقدت دورها القيادي مع أنها تملك دواء دائها الحضاري والمتمثل في كتاب الله وسنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم والعبقرية البنابية التي حملت الحل لأزمة العالم الإسلامي، والمؤسف في الأمر أنّ الدول العربية لم تستند في وضع سياستها التنموية على أفكار علمائها الكبار من أمثال مالك بن نبي وغيره. لذا، أخذ الفشل يعتري أغلب السياسات العربية. وبالمقابل، أثبتت أفكار مالك بن نبي فعاليتها في تلك الدول التي جعلت الأفكار البنابية قاعدتها الأساسية مثل ماليزيا بقيادة د. مهاتير محمد. فما بقي على الدول العربية سوى الاستفادة من التجربة الماليزية لاسترجاع دورها الحضاري. والمثير للاهتمام في هذا الكتاب هو أن الدكتور عمر نقيب لم يتغاض عن أي جانب من فكر مالك بن نبي، بل ذهب إلى أبعد من ذلك فلقد اكتشف على ما ينطوي عليه فكر مالك بن نبي ألا وهو البعد التربوي. فهذا الكتاب يمثل لبنة مهمة في الدراسات التربوية التي تسعى إلى توضيح الرؤية اللازمة لهذه المرحلة من تاريخ الأمة الإسلامية للنهوض بالمنظومة التربوية في الوطن العربي الإسلامي.

إعداد:كريمة بوزقاو
المدرسة العليا للأساتذة، بوزريعة، الجزائر
طالبة في قسم الفلسفةالسنة الثالثة.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.