مالك بن نبي فيلسوف التنوير والتحرير
د. محمد العربي ولد خليفة
رئيس المجلس الأعلى للغة العربية
أولا- النخب ومجتمعاتها
عانى العالم العربي والإسلامي ولعدة قرون، من ندرة الأفكار المؤسسة، وكلما نبغ فيلسوف أو عالم أو فنان مبدع يبتعد عن الطرق المعبدة ويخضع قضايا شعبه وأوضاع أمته لمجهر النقد والتحليل واقتراح البدائل المنقذة من الضلال والغفلة، كلما تجاهلته الخاصة من نخب زمانه، وضاع صوته بين عامة الناس، إذا لم يتعرض للاتهام والاضطهاد، ليس في هذه الملاحظة حكم عام، ولكن ندرة الأفكار الكبيرة وضعف تأثيرها من دلائل ما يصيب المجتمع من عقم وجدب.
يمكن للمتابع لمسار الأفكار في مجتمعاتنا أن يتساءل: هل أن لكل مجتمع النخب التي يقبلها في مرحلة معينة من تاريخه؟ أم أن المسؤولية تقع على كاهل النخب التي تُفضّل السباحة المريحة على سطح البحيرات الراكدة؟ كما يصفها غ.موسكا G.Moska 1858-1941 عالم الاجتماع الإيطالي.
في مجتمعات غرب أوربا وكذلك روسيا وشمال أمريكا، سبق كل التحولات الكبرى من بداية نهضتها إلى اليوم رواد في الفلسفة والعلوم والفنون تنسب إليهم الانجازات الحضارية لعصرهم، نذكر على سبيل المثال ليوناردو ديفنشي، إسحاق نيوتن، توماس هوبز، ديكارت، كانط، هيغل، ماركس، تولستوي، سارتر، بيكاسو فوكو…والقائمة طويلة، غرس كل منهم بذور ما أصبح يسمى العالم الأول وما شهده من تطور وقوة ونفوذ في العالمين الثاني والثالث.
ثانيا- القبس النوراتي
أين موقع مالك بن نبي في مسار أفكار عصره وما بعد عصره؟ الجواب إن الكثير من اجتهاداته بقيت سجينة ما قبل عصره، في بلد عايش في شبابه محنته وهو بين مخالب الاحتلال الاٌستيطاني ويتعرض لسلخ ثقافي Déculturation وتثاقف انتقائي acculturation لم يتجاوز في أغلب الأحيان المدرسة الاٌبتدائية وإدماج وهمي Assimilation دفع الكثير من شرائحه إلى التحصّن في آخر قلاعه وهي عقيدته الإسلامية وموروثه الثقافي، والكثير منه شفهي بلغته العربية الجامعة ولغته الوطنية الثانية التي سماها حسن الوزان المعروف في الغرب باُسم ليون الإفريقي في القرن 16 “أوال أومازيغ”.
أما العالم العربي والإسلامي الذي ينتمي إليه مالك بن نبي، فقد تحول منذ أمد بعيد إلى موضوع لفعل الآخر، ولم يعد فاعلا في الصيرورة التاريخية، لذلك لم يطرح مالك بن نبي السؤال التقليدي: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ الذي شغل الكثير من أهل الفكر والذكر طيلة القرن الماضي، بل قام بحفريات في عمق السؤال السابق وقدم نظريته في دراستين هامتين الأولى بعنوان ( شروط النهضة) والثانية بعنوان (الظاهرة القرآنية) ومجموعة أخرى من المؤلفات أظهرت عمق أفكاره واٌتساع نظرته لمسألة ميلاد الحضارة وأسباب ازدهارها وتراجعها، ثم أفولها وقانون المرور المؤدي إلى اٌنتعاشها وشفائها من الأمراض التي أضعفتها وذلك انطلاقا من القبس القرآني الذي دارت فيه وحوله حضارة الإسلام.
ثالثا- مفاتيح النهضة
لا يتسع المقام لمقاربة المفاهيم المفتاحية لفيلسوف الحضارة الجزائري والإسلامي والإنساني ومنهجه العلمي والغوص في عمق أفكاره المؤسسة، ونوجز فقط القليل منها في النقاط الخمس التالية:
1- من الناحية المعرفية يمكن اعتبار مالك بن نبي مفكرا تأصيليا وجذريا intransigeant أي لم ينخرط في موكب التلفيقية والتوفيقية، فقد انطلق من جوهر الرسالة المحمدية في أبعادها الروحية والأخلاقية والإنسانية، ودرسها من خلال مثلثه الهندسي، وهو الكهربائي الذي يركز على التيار أو الطاقة والوصلات التي يمر منها، فهو يضع الإنسان في قمة المثلث والتراب، أو الإقليم في قاعدته أما زاويته الحادة فهي الوقت، وأدرك بحدسه أن الأمة الإسلامية أهدرت زمنا طويلا تعبر عنه المقولة الشعبية: “كل عطلة فيها خير” ولذلك كان الوقت ضدها وحليف غيرها، ويضرب مثلا بالتجربة اليابانية منذ عهد الميجي التي استثمرت في الإنسان وربحت الوقت في بلد يفتقر إلى الكثير من الثروات الباطنية التي تزخر بها المنطقة العربية وإفريقيا.
2- إن الحضارة هي التي تصنع منتجاها وليس العكس، بل إن استيراد تلك المنتجات قد يوهم المجتمع والبعض من نخبه العالمة والسياسية، بأنها دخلت الحضارة من أوسع أبوابها، وهم في الحقيقة أشبه بمن يستأجر ثوبا من أعلى طراز من معرض لأزياء الموضة لم يقم بتصميمه وصنعه، وهو لا يرى أي مشكلة في الاطلاع على ثقافة الغرب، إنّ المشكلة في التعلق بما سماه الأفكار الميتة أي التي انتهت صلاحيتها في الغرب نفسه، ولذلك لم يودّ الاستنساخ إلى توطين متواصل وتوليد حقيقي للمعرفة تساعد على تجاوز الهوة التي تفصلنا عن عالم المقدمة.
3- لم يشغل ابن نبي نفسه بالإفتاء في شؤون العقيدة والشريعة على أهميتها في كل المجتمعات وفي الأديان السماوية الثلاثة، فهو ليس من الفقهاء وعلماء أصول الدين، وليس من أهل الفتوى حسب الطلب، فقد كان هدفه زرع بذور النهضة والتطور في انتظار أن تثمر وتؤتي أكلها، وقد سعى إلى ذلك عن طريق العديد من تلاميذه ورواد مجالسه من الشباب والأقل شبابا، ومن بين الرسائل التي وجهها للمسلمين عامة وللجزائر خاصة أن في الإسلام وطنية وأن في الوطنية إسلام إذا حدث تنكّر لأحد البعدين تعرّض المجتمع إن آجلا أو عاجلا للأزمات والصراعات المهلكة، وقد أدّى الفصل البارانوي Paranoïque بينهما إلى سلسلة من المغالطات: إذا كنت مسلما مطبقا لتعاليم الدين الحنيف فأنت لست مؤهلا لمتطلبات عصرك، وإذا كنت وطنيا فإنه ينبغي عليك أن تتبرأ من كل ما سبق! إن في الإنسان عقل وروح إذا طغى أحدهما على الآخر حدث اٌختلال في منظومة القيم التي يمكن أن تتطور من داخل القطبين السابقين ودعا إلى التخلص من الأفكار الميتة في تراثنا، وفيما تجاوزه الزمن في الغرب.
4- أثارت أطروحته عن القابلية للكولونيالية الكثير من الجدل، وأغلب الظن أنها تعني أن المجتمعات الراكدة التي ينخرها التخلف تفقد حصانتها وتتجرأ عليها القـــوى المتقدمة بســبب تفوقــها فيــما يعــرف بثــوابت القوة les constantes de puissance، ولا تعني مقولته عن القابلية للكولونيالية أن الحضارة حكر على جنس أو لون أو منطقة جغرافية دون غيرها، كما روج لذلك منظرون في الغرب الأوربي الأمريكي لتبرير حملات التوسع وسيطرة الجنس الأرقى على الجنس الأدنى.
5- ليس من السهل تقييم تراث مالك بن نبي الغزير فهو مثل ابن باديس مفكر ميداني أي يعيش أفكاره ويدافع عنها عن قناعة، ومن المؤكد أن في أفكاره قيمة مضافة سواء تعلق الأمر بأدواته المنهجية أو برؤيته الثاقبة للإسلام المظلوم في عصره وإلى اليوم، ليس من خارجه فحسب ولكن أيضا من أتباعه.
رابعا- خلاصة
إن الأفكار تنتسب دائما إلى عصر وبيئة تكسبها خصوصية تاريخية، غير أن عبقرية المفكر قد تنقلها من محليتها وتدافع عن راهنيتها وتعبر بها إلى العالمية، وهذا شأن مالك بن نبي، فلم يحدث في تاريخ الأفكار الكبرى أن تكون نقطة الانطلاق من الفضاء الخارجي، إذ من المحتمل في هذه الحالة أن تضيع في سديمه، ولا ينفي ذلك أن في العالميةL