قابلية مقاومة الاستعمار
منير شفيق
موضوعتان اشتهر بهما مالك بن نبي، أولاهما نظريته في تعريف الحضارة بأنها تسأوي من خلال معادلة حسابية إنسان+ تراب+ وقت. وقد اعتمد في آرائه على كسر لينغ الذي ركز على دور الفكرة المسيحية في تركيب الحضارة الغربية، وذلك بتعميمها على اعتبار “الفكرة الدينية” بمثابة العامل المساعد الذي لولاه في التفاعل الكيمأوي، لما ـمكن تفاعل الأوكسجين والهيدروجين ليشكلا جزيئا من الماء.
هذه الموضوعة ضعيفة من عدة نواح؛ أولها حين تُنزَّل على مختلف الحضارات التي تشكلت في التاريخ، إذ لا تؤيد دراسة مدققة لتاريخ تشكل الحضارات أو حتى الحضارة الغربية نفسها هذه المعادلة، أو تداخل عامل الفكرة الدينية كما يتدخل العامل المساعد في التفاعل الكيمأوي. فهنا تشبيه غير واقعي لما يجري في عالم الكيمياء بما يجري في عالم الإنسان والمجتمعات ومختلف العوامل الفاعلة في تشكل الظواهر الاجتماعية بما في ذلك موضوع الحضارة.
فعلى سبيل المثال العامل المساعد في تركيب جزيء الماء سرعان ما يختفي وينتهي دوره بمجرد تسهيله للعملية فيصبح لدينا جزيء ماء مشكل من هيدروجين(ذرتان) وأوكسجين(ذرة واحدة) فقط. أما دور الفكرة الدينية – لو قبلنا استعمال العبارة الجدلية نفسها- حيثما لعب الدين دورا مميزا في تشكل الحضارة(ثمة تفأوت من حضارة لأخرى من نواح كثيرة أساسية) فإنه لا ينتهي بانتهاء مهمته في عملية تركيب: إنسان+ تراب + وقت.
إن محأولة نقل القوانين العملية الحاكمة في عالم المادة أو بيولوجيا الإنسان والحيوان إلى عالم الإنسان والمجتمع والتدافع البشري الفردي والجماعي حيث ثمة قوانين(إن جاز التعبير) أشد تعقيدا وتركيبا وبتدخل عوامل لا يمكن تشبيه أدوارها كمّاً ونوعا في عالمي المادة والفيزيولوجيا.
وإذا قيل إن التشبيه هنا جاء على سبيل المثال لتقريب النظرية إلى الأفهام، فسيكون مجرد عملية تبسيطية مضللة. وقد ارتكب هذا الخطأ كثير من الماركسيين، وهم يحأولون تطبيق “ديالكتيك الطبيعة” على ديالكتيك الإنسان والمجتمعات. وتمادى في هذا النهج طالب الطب صلاح حافظ في الخمسينيات من القرن الماضي (انظر مقالاته في روز اليوسف)، ويكرر النهج نفسه الدكتور خالص جلبي (من تلامذة مالك بن نبي) وإن تجأوزاه اليوم في آرائه السياسية وربما بنسبة 180% حين أخذا يطبقان ما يجري في عالم الطب على ما يجري في عالم الإنسان والمجتمعات .
اما موضوعة “الحضارة = إنسان + تراب + وقت” فلا بد من مناقشة أعمق لها تتعلق بمفهوم أو تعريف الحضارة، وهو ما لا اتفاق عليه مع متنأولي الموضوع. لكن يمكن القول أن ما قدمه مالك بن نبي في إثبات نظريته مجرد لمحات سريعة لا ترقى إلى مستوى القراءة التاريخية لمختلف الحضارات نشوءا وازدهارا وانحطاطا. بل إن هذه المعادلة الميكانيكية- الكيمأوية ذات جدران ضيقة، وليس الآفاق الرحبة أو التعدد والتنوع اللذان عرفتهما الحضارات بما يصعب ابتسارهما بهذه المعادلة.
وإذا مضينا مع مالك بن نبي إلى ما يخلص إليه من هذه المعادلة وهو الاعتماد على الآية القرآنية “ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” (الرعد11)، وهنا يمكن تقديم – كمدخل- ملحوظة أولية وهي: إن الآية – وكما تؤيدها آيات بالمعنى نفسه- فضلا عن الاعتبار بالقرى التي وردت في القصص القرآني، فقد جاءت بمعنى السلب أي التغيير الذي يحدث في الانتقال من حالة التمكين والنعمة (وإذا شئت ازدهار الحضارة) إلى حالة الفساد والإفساد والانحلال والفسق أي تغيير ما بالأنفس فينزل العقاب. صحيح أن القاعدة يمكن تطبيقها في حالات الإيجاب أي الانتقال من حالة الاستضعاف إلى التمكين، أو في حالة الغرق في النقمة إلى النعمة، لكن ذلك مشروط بآيات أخرى كذلك، أو تأمين شروط أو توفرها تتعدى تغيير الأنفس، مع أن تغيير الأنفس من شروط التغيير الإيجابي، ولكنه ليس الشرط الوحيد أو الكافي، وذلك على العكس من حالة السلب إذ يكفي وحده لحدوث السقوط أو الكارثة. ثم لا تسأل عن الاختلافات عند إعطاء محتوى لتغيير الأنفس عند النهوض وفي الإيجاب فيما لا خلاف عند السقوط والسلب.
نأتي الآن إلى الموضوعة الثانية التي اشتهر بها بن نبي فهي المتعلقة بنظرية “القابلية للاستعمار” وهي التي تصر على إعادة ظاهرة الاستعمار نفسها إلى مسؤولية شعوب المستعمرات بسبب سمة القابلية للاستعمار فاستمع اليه يقول” إن الاستعمار ليس من عبث السياسيين، ولا من أفعالهم، بل هو من النفس ذاتها التي تقبل ذل الاستعمار والتي تمكن له في أرضها”.
هذه النظرية في معالجة إشكالية ظاهرة الدول الاستعمارية- الامبريالية- المهيمنة وتمكنها من إخضاع الشعوب وفرض نظامها العالمي من خلال إسقاط إشكالية اختلال موازين القوى العسكرية وما تداعى عنها من إشكاليات اختلال موازين القوى السياسية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية وغيرها، في تفسير ظاهرة الهيمنة على الشعوب الأخرى. وفي المقابل البحث عن أسباب في الشعوب نفسها في تشكل الظاهرة مثل: التخلف أو الأمية والجهل أو الاستعداد النفسي لقبول الهيمنة أو الانصياع لها!
وهنا يسقط من التاريخ الحروب الاستعمارية وما ارتكب من مجازر وقهر من أجل الإخضاع كما يسقط من ذلك التاريخ ما بذلته الشعوب من مقاومة للاستعمار وتضحيات متطاولة، وبلا انقطاع. ومن ثم لم يتحقق الإخضاع الا بقوة البطش والقهر وليس “القابلية للاستعمار” والرضا به، ثم إعادته لأسباب نفسية كامنة تقبل الذل، أو تطلبه، وهذا معنى القابلية.
ولعل المأساة أن الذي خرج بهذه النظرية هو جزائري كان يتوجب عليه لو درس تاريخ سيطرة الاستعمار على الجزائر وليس مقاومة عبدالقادر الجزائري فحسب وإنما تواصل المقاومة من بعده من خلال ثورة “بومعزة” 1845 ثم ثورة القبائل الامازيغية بقيادة “لالا فاطمة” 1857 وثورة عشيرة “أولاد سيدي الشيخ” التي استمرت حتى 1865 ثم ثورة “مقراني مجانة” ومعه الشيخ الحداد في1871.
وهذه جميعاً كانت ذات طابع شعبي عميق الجذور، واسع التأييد، ليس في الجزائر فحسب وإنما أيضا على نطاق المغرب العربي الكبير بل العالم الاسلامي كله. ثم لا تسأل بعد ذلك عن توالي الانتفاضات وألوان المقاومات السياسية والفكرية والشعبية حتى رحيل الاستعمار الفرنسي عبر ثورة المليون شهيد.
إن قراءة هذا التاريخ بالذات وهو نموذج لتاريخ الشعوب العربية والاسلامية وقصته مع الاستعمار أو الغزو الخارجي يناقض نظرية “القابلية للاستعمار” أو إعادتها لأسباب نفسية. بل يفرض القول أن شعوبنا ذات “قابلية لمقاومة الاستعمار”.. “قابلية للعزة والتحرر والاستقلال”. ومن ثم فإن تمكن السيطرة عندما وقعت، أو عندما قد تقع، فهذا لا يحدث إلا عبر اختلال في موازين القوى العسكرية والعالمية والإقليمية، عبر القهر والبطش والإغراق في الدماء. وحتى حين تُثخن الأمة بالجراح وتُضطر للسكون تحت القهر والبطش فإن الجمر يبقى تحت الرماد لتشتعل نار التحرر من جديد.
فظاهرة الإخضاع لا تفسر بنظرية”القابلية للاستعمار” وإنما بنقيضها فقد مرت دائما عبر المقاومة الضارية لشعوبنا، وظلت باستمرار تحت تجدد تلك المقاومة بألوان متعددة.
تبقى نقطتان: الأولى لماذا حدث الاختلال في ميزان القوى؟
هنا، كلمة للتاريخ ولمجموعة عوامل سمحت للقفزة التي حدثت في أوروبا ووضعتها في حالة تفوق على العالم بأسره في القرن التاسع عشر، وقد بدأت هذه القفزة مع اكتشاف الأميركيتين وطريق رأس الرجاء الصالح في أواخر القرن الخامس عشر. ولهذا حديث يطول. وكذلك قراءة العوامل التي لم تسمح للدولة العثمانية أو دول آسيا وافريقيا أن تسابق أوروبا في التفوق العسكري والعلمي والتقني والاقتصادي. وهذا وذاك لا بد من أنه يبتعد عن نظريتي مالك بن بني حول الحضارة (الإنسان والتراب والوقت) وحول “القابلية للاستعمار. فحرام أن يُبرأ “القوي” من دم الضعيف بحجة تخلف الضعيف أو “قابليته للاستعمار”. فما يتقرر لأسباب لها علاقة بموازين القوى وظروف عالمية محددة لا يجوز أن يسوغ، أو يختلط،، بإشكالية السلبيات الذاتية للشعوب المقهورة فلكل من هاتين الظاهرتين حسابه. فالبحث عن أسباب الاستعمار في الشعوب المقهورة ابتعد عن فهم الظاهرة العالمية وتفسيرها من خلال التاريخ والمعرفة الصحيحة، بل تحل من خلال طبيعته لا حالة ضحيتها.
والنقطة الثانية هي الاتجاه الذي راح يعزو الهجمة الصهيونية الأميركية على بلادنا في المرحلة الراهنة في إلقاء المسؤولية على النظام العربي أو على مجتمعاتنا وهو قريب، أو امتداد معاصر لنظرية “القابلية للاستعمار”. وذلك بدل التركيز على أن تلك الهجمة التي تجدد هجمة القوى الاستعمارية على شعوبنا في القرنين الماضيين. وذلك انطلاقا من موازين القوى وما يتسم به أصحابها من طبيعة مشحونة بالاطماع وروح نهب الثروات وإخضاع الشعوب بالقوة والقهر.
___________
مفكر إسلامي
المصدر : جريدة الغد الأردنية 08 / 12 / 2005م