خواطر حول الفكر الحضاري لمالك بن نبي

عدد القراءات :2756

لم يقدر لي أن أقترب من الأستاذ مالك بن نبي شخصا أو فكرا حتى خريف عام 1968م. في ذلك الوقت كنت أعمل أستاذا مساعدا في إحدى جامعات تكساس بالولايات المتحدة الأمريكية، وكنت في ندوة في الشرق الأمريكي والتقيت بأخ سوداني أعطاني نسخة من كتاب “شروط النهضة”، ووضعته في الحقيبة حتى أقرأه لاحقا.
وفي الطائرة – في طريق عودتي من واشنجتون إلى دالاس – بدأت أنظر في صفحاته، ولكن الرحلة كلها مضت بساعاتها الأربع أو الخمس في صحبة مالك، لا أكاد أرفع بصري عن الكتاب إلا لضرورة.
شعرت بأنني أعرف الأستاذ مالكا من قبل، وبأن هذه الأفكار كأنما تنبع من نفسي بعد أن حركتها كلماته في أعمق الأعماق. والحقيقة أن هناك ديناميكية للقاء الأفكار والأفئدة، وأضرب مثلا لذلك: إنك إن ذهبت تتحدث عن معاني الإيثار والإنفاق في سبيل الله في مجتمع سيطرت عليه الأنانية واستغرق في ترف مهلك فإن الأفكار لا تكاد تخدش سطح الأنفس.
إن استعداد الأفئدة لتلقي الأفكار يحتاج إلى معاناة قلبية وأسئلة حيرى وقلق إنساني بالغ، فإذا هبت رياح الأفكار على هذه الأفئدة فإنها سرعان ما تتلاقح وتنبت بسرعة هائلة.
وهذا ما حدث لي في لقائي مع “شروط النهضة”؛ لقد تفاعلت معها تفاعلا قويا، حدد لي كثيرا من المعطيات الثقافية في حياتي المقبلة، وفي هذه الفترة كانت الهيمنة الثقافية في الحركة الإسلامية لفكر أستاذنا سيد قطب رحمه الله، خاصة كتبه الأخيرة، مثل: “معالم في الطريق” و “في ظلال القرآن”، وكان القارئ لهذا الفكر يشحن بطاقة إيمانية هائلة ويجد نفسه مستعدا للتضحية في سبيل عقيدته بكل ما يملك، ولكن السبيل غير واضحة، والرؤية مضببة، وقد ننزلق إلى أهداف أعدائنا دون أن ندري، ونحن نحسب أننا نحسن صنعا. وربما يشارك الاستعمار في هذه اللعبة الخبيثة بتخليق أهداف ثانوية تبدو براقة للناظرين، فتتجه إليها القلوب المشحونة بالرغبة الجهادية العاطفية لتكتشف بعد قليل أنها في دائرة الصفر لم تتقدم خطوة واحدة.
ومن هذه الأهداف البراقة تحويل الشحنة الجهادية إلى قنابل وصواريخ كلامية باسم الرأي والرأي الآخر، وإنشاء مئات المنابر التي يعتليها المتكلمون والمتكلمات في عمليات طحن للكلام المزوق الذي يلهينا عن المعارك الجهادية الحقيقية في المزارع والمصانع ودور التعليم وساحات الجهاد المتعددة.
في كتابه “شاهدعلى القرن” يرسم مالك صورة لهذه الحالة المرضية، ففي الثلاثينيات من القرن الماضي -عندما كان مالك ما يزال صبيا- نجح المستعمرون في تحويل الشحنة الإيمانية إلى منابر كلامية، ويقول مالك واصفا أحد هذه المنابر: إن رجلا جزائريا طلب أن يتكلم وظل يصيح أريد أن أتكلم، وكلما اعتلى شخص آخر المنبر ظل يصيح صاحبنا: أريد أن أتكلم، وأخيرا سمحوا له أن يعتلي المنبر فصعد وفي يده مكنسة وهتف قائلا: أريد أن “أكنس” الاستعمار من الجزائر كما أكنس التراب بهذه المكنسة، ثم هبط من المنبر ووجهه مطمئن باسم كله رضا، لقد قام بدوره في مقاومة الاستعمار بهذا المشهد، وحول الشحنة الإيمانية إلى شحنة كلامية ضاعت في الهواء، ولم يبق شيء نقدمه للأوطان في المعارك الحقيقية، وفي هذه الأيام -مع الهجوم الكاسح لأجهزة الإعلام في بيوتنا جميعا من حجرة النوم إلى الحمام- تحولت الأمة كلها إلى مشاهدين ونظارة، ومع الوقت تبلدت أحاسيسنا ونحن نشاهد الكرات المتلاحقات في بلادنا، وأدمنّا العجز وحجتنا أن التحدي عظيم لا نملك أن نواجهه، أي أننا نصنع لأنفسنا هدفا ضخما ثم نعتذر عن تقاعسنا لضخامة الهدف، والأصل أن نحدد الأهداف قريبة المنال، ثم نصعد منها إلى ما بعدها، ولكننا رضينا بهذه اللعبة الخبيثة، نضحك بها على أنفسنا ونزعم أن الأهداف أكبر منا وتحتاج إلى طالوت جديد.

معالم في فكر الأستاذ مالك:
القابلية للاستعمار: علمنا الأستاذ مالك أن هناك دائما زوجين متلازمين ومتعاونين، وهما الاستعمار وقرينته الشمطاء القابلية للاستعمار.
إن الاستعمار يهزمنا من خلال هذه القابلية المستكنة في نفوسنا، فتضعف من مقاومتنا وتجعلنا عبيدا نلهث وراء منتجاته هو، وتلهينا عن الصمود وراء قلاعنا التنموية والثقافية والسياسية. فكيف نبني صناعة قوية ونحن نلهث وراء منتجاته؟ وكيف نبني زراعاتنا ونحن لا نطعم إلا ثمار زراعاته؟ وكيف تتطور ثقافتنا ونحن مغرمون بثقافاته؟ وكيف نقاومه ونحن راكعون أمام عتباته؟
ولعل هذه القابلية للاستعمار وما تسببه من هزيمة هو بعض ما يشير إليه قول الله تعالى: “إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استذلهم الشيطان ببعض ما كسبوا”.
والمخرج القرآني من هذه القابلية هو قول الله تعالى: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”.
وهذا هو منهج مالك.. تغيير ما بالنفس، وقتل هذه القابلية الخبيثة للاستعمار، وحينئذ يعين الله المؤمنين بأن يتغلبوا على الاستعمار الخارجي بعد أن تغلبوا على الاستعمار المستكن في أعماق النفس.

المعادلة الحضارية: يرى مالك بن نبي أن الحضارة تحكمها معادلة حضارية:
إنسان + تراب + زمن، إضافة إلى الدين كعامل مساعد = حضارة.
فالحضارة لا تقوم إلا بتفاعل الإنسان مع ترابه الوطني في زمن مقدر مكتوب وفي ظل عقيدة وشريعة ونظام.
والدين الممثل بالعقيدة والشريعة والنظام يدخل في المعادلة كعامل مساعد، أي إنه ضروري في التفاعل، ولكنه لا يتأثر بهذا التفاعل، لأن العقائد والقيم النابعة من الدين ثابتة لا تتغير بالتفاعل، وإنما يمكن أن تتطور النظم والشرائع النابعة من هذه القيم لتناسب تغير الظروف مع الزمن.
وتعلمنا هذه المعادلة أن قيام الحضارة يحتاج إلى إنسان ذي رسالة، وإلى إمكانيات مادية متمثلة في التراب، وإلى زمن معلوم.
والذين يريدون أن يقيموا حضارة من غير رسالة إنسانية ستضيع جهودهم تذروها الرياح. كما أنه لا تقوم حضارة من غير إمكانيات مادية، وكل الحضارات قامت من قبل في سعة مكانية مليئة بالخيرات. والذين يريدون أن يقيموا حضارة في ليلة وضحاها واهمون؛ فلكل حضارة وقت معلوم، ولكل حضارة أجل معلوم.

الدورة الحضارية: كما يمر الإنسان في حياته بمراحل متعددة من الطفولة والصبا والشباب والقوة ثم الشيخوخة ثم الموت، كذلك تمر الحضارات بمراحل ثلاث:
فهناك مرحلة الإقلاع، وتتميز بالقدرات الروحية العظيمة وانكماش المطالب المادية إلى الضروري، وهي فترة تتميز بأن العطاء أكثر من الأخذ، والإنفاق في سبيل الهدف هو الغالب الأعم. وفي تاريخنا تمثل حياة المصطفى عليه الصلاة والسلام وفترة الخلافة الراشدة المثال الحي لمرحلة الإقلاع، ولا تقوم حضارة من غير مرحلة إقلاع.. مرحلة العطاء الدافق والزهد العظيم.
ثم تأتي بعد ذلك مرحلة البنيان والتمدين، حيث تنشأ في الدولة النظم المعقدة في الاجتماع والاقتصاد والسياسة، ويؤدي ذلك إلى اكتمال العمران الإنساني وبلوغه القمة، كما حدث في تاريخنا زمن الأمويين والعباسيين، وكما يحدث الآن في الحضارة الغربية.
ثم تأتي من بعد ذلك مرحلة الهبوط من هذا السقف التمديني وصولا إلى الانحطاط الحضاري الذي تعيشه كثير من دولنا الإسلامية. ذلك أنه في نهاية مرحلة التمدين يصعد مؤشر الترف صعودا كبيرا؛ والترف هو المرض العضال الذي يصيب الحضارات عندما يكتمل بناؤها التمديني ويؤدي بها إلى الهلاك المبين.
وبعد: فإن لمالك المفكر بعدا روحيا هائلا، وكان هذا البعد الروحي هو الذي يحمل مالكا في صخب الحياة ومتاعها.
يحكي مالك في كتابه “شاهد قرن” عن مرافقته لزعيم من زعماء الشمال الإفريقي أثناء زيارة الأخير لفرنسا، وكان هذا الزعيم يسأل مالكا عن نوعية المجموعات التي يلتقي بها، فإذا كانوا متدينين كان الحديث إسلاميا للغاية، وإذا كانوا يساريين كان الحديث في قمة اليسار.
فوجئ مالك بهذا النفاق العجيب عند رجل من زعماء السياسة ثم سأل نفسه: لماذا يفعل هذا؟! أمن أجل الدنيا؟ ثم دعا ربه: رب لا تجعل لي نصيبا في هذه الدنيا التي تذل أعناق الرجال، ومضت به الأيام ووجد نفسه في ضائقة مالية متكررة، لا يكاد يجد قوت يومه، وهو المهندس خريج الجامعات الفرنسية. ثم تذكر أنه دعا ربه أن لا يجعل له نصيبا في هذه الحياة الدنيا فرفع يده إلى السماء قائلا: رب كنت قد دعوتك من قبل بهذا الدعاء، ولكني أدعوك اليوم أن تعطيني قليلا أعيش به يا رباه.
كلما تذكرت هذه القصة تذكرت مالكا الرجل الصالح الجميل، وهذا الوصل بأسباب السماء والطهارة القلبية التي تضحكك وتبكيك.
وفي “شاهد على القرن” يحكي قصة عجيبة يقول فيها: إنه عاد يوما إلى بيته في باريس وبدأ في تصفح الجريدة اليومية، ويا لهول ما وجد.. شتما وإهانة في حق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تهتز الأرض، فإذا بالأرض تهتز؛ فظن مالك أن ذلك تصور منه وتخيل، ولكنه في اليوم التالي قرأ أنها هزة أرضية حدثت في نفس الوقت الذي أحس بها فيه مالك.
هذا هو مالك المفكر العميق والمؤمن العظيم، وهذه إطلالة سريعة على فكره ومواقفه الإيمانية، وهي دعوة موجهة للشباب ليعكفوا على كتبه ودراساته؛ فما قدمته في هذه الإطلالة هو قطرة في بحر فكره اللجي.
والله من وراء القصد

أ.د. سيد دسوقي حسن
أستاذ هندسة الطيران غير المتفرغ – جامعة القاهرة

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.