الصراع الحضاري من منظور مالك بن نبي وإدوارد سعيد

عدد القراءات :3221

مقدمة
لم يكن مالك بن نبي بعيدا عن أوضاع المسلمين أو غافلا عنها أو مشغولا بقضايا أخرى، وإنما كانت شغله الشاغل، لذلك تميزت دراسته موضوع الحضارة بالحكمة والرزانة والتعمق في القضايا وتتبع أسباب الداء لمعرفة الدواء، والوصول إلى مصدر المرض واستئصاله من جذوره. فهو من النوابغ الذين خرجوا بأفكار ناضجة ومتكاملة حول مشروع الإقلاع الحضاري مهتديا بخطى الإسلام، ومستفيدا من ثقافة العصر الحديث.
وفي الغرب علا صوت المفكر الناقد المنظر الأدبي اليساري العلماني الذي يصعب حصره في مدرسة تفكير محددة، أو تصنيفه وفق مذهب بعينه؛ لأنه أنموذج دائم للمثقف الدائم الاشتقاق ممن يعيش على نحو جدلي ويدرج إشكالية الظواهر كبند محوري على جدول أعمال العقل،ويخضع ملكة التفكير لنظام معرفي ومنهجي مركزي هو النقد، إنه المفكر العربي المسيحي العلماني إدوارد سعيد (1935-2003) الذي دافع عن المسلمين والعرب.
لقد نشأ إدوارد سعيد وترعرع في أحضان الحضارة الغربية وتشرب فكرها دون أن تدخله إلى حظيرتها الهالكة والمهلكة فأخذ من إرثها الصالح وأحجم عن الطالح، كشف القناع عن دعائم جبروتها الاستعماري وقدمه للعالم في منظور جديد يعتمد على المنطق والحجة، قاضى الغربيين في عقر دارهم، وأثبت أن الحضارة الإسلامية أشرف وأقدس حضارة فوق هذه الأرض ففند دعائم الغربيين وكذبهم في تشويه الإسلام وأسسه.
ومن عناصر الورقة:

الحضارة الإسلامية نور لن ينطفئ
لقد تحدث كل من مالك بن نبي وإدوارد سعيد عن أن الحضارة أعمق دلالة وأرحب أفقا وأبعد مدى في التعبير عن الروح التي تسري في مجتمع من المجتمعات، فهي تنشأ من تفاعل ثقافات متعددة، ويشارك في صياغة ملامحها وتشكيل خصائصها شعوب مختلفة.
وقد ميز كل منهما أسس الحضارة الإسلامية باعتبارها إرثا مشتركا بين جميع الشعوب والأمم التي انضوت تحت لوائها، وشاركت في بنائها، وأسهمت في عطائها، وهي الشعوب والأمم التي كونت وشائج الأمة الإسلامية ونسيجها المحكم.
فالحضارة الإسلامية إذن ليست حضارة جنس معين فتكون بذلك حضارة قومية تنتمي إلى قوم مخصوصين، ولكنها حضارة جامعة شاملة للأجناس والقوميات جميعا التي كان لها نصيبها في قيام هذه الحضارة، وازدهارها وتألقها، وامتداد تأثيرها ونفوذها إلى العالم الذي سطع فيه نجمها واتسع إشعاعها وامتد نفوذها.
فعلى هذا الأساس تكون الحضارة الإسلامية نوعين:
حضارة إسلامية أصيلة وتسمى حضارة الخلق والإبداع وقد كان الإسلام مصدرها الوحيد، وعرفها العالم لأول مرة عن طريق الإسلام.
وحضارة انفرد بها المسلمون في الأمور التجريبية امتدادا وتحسينا كما عرفها الفكر البشري من قبل، وتسمى حضارة البعث والإحياء2.
وميز كل منهما سمات الحضارة الإسلامية بخمس خصائص تكسبها الطابع المميز لها بين الحضارات الإنسانية المتعاقبة في الماضي والحاضر على السواء، وهي:
* أنها حضارة إيمانية
* ثم هي حضارة إنسانية المنزع في آفاقها وامتداداتها
* وكذلك هي حضارة معطاء، أخذت واقتبست من الحضارات والثقافات الإنسانية التي عرفتها شعوب العالم القديم.
* وهي أيضا حضارة متوازنة، وازنت بين الجانب الروحي والجانب المادي
* وأخيرا هي حضارة باقية بقاء الحياة على وجه الأرض تستمد بقاءها من الإسلام .

الحضارة الغربية في الميزان
يقتضي الإنصاف أن نقول ابتداء أن الحضارة الغربية لا تخلو من جوانب إيجابية. لقد اختصرت الحضارة الغربية للإنسان المسافات، فقربت له المكان ووفرت له الزمان، وقد استفادت منها الحياة العلمية في كل أنحاء العالم بما فيه الحضارة الإسلامية فدخل في علوم القرآن والحديث واللغة وعلومها وآدابها وغير ذلك من العلوم الإسلامية3.
وهذه الحضارة لا تخلو من السلبيات، فهي لا تتفق والتعاليم الدينية والخلقية الفاضلة والمبادئ الإنسانية التي تهدد الحضارة الإنسانية بأوخم العواقب، وتتمركز سمات الحضارة الغربية فيما يأتي:
* الغبش في معرفة الألوهية.
* النزعة المادية وهي التي تؤمن بالمادة وحدها لتفسير الكون والمعرفة والسلوك وتنكر الغيبيات، وكل ما وراء الحس.
* النزعة العلمانية تلك النزعة التي تفصل الدين والحياة الاجتماعية.
* الصراع فهي حضارة تقوم على الصراع، لا تعرف السلام ولا الطمأنينة ولا الحب، إنه الصراع بين الإنسان ونفسه وصراع الإنسان والطبيعة، وصراع بين الإنسان والإنسان وصراع بين الإنسان والإله.
* الاستعلاء على الآخرين

تجليات الصراع الحضاري عند مالك بن نبي وإدوارد سعيد
حاول مالك بن نبي بتحليلاته وآرائه الإصلاحية من داخل المجتمع الإسلامي أن يصحح هذه المقولات ويخطئ الشائعات التي تحط من الإسلام أولا وحضارته ثانيا ومعتنقيه ثالثا، وتحث محبيه على ضرورة الدفاع عنه والحفاظ عليه وذلك بإصلاح النفس ثم الغير حتى يتم التآرز والتآخي والسير وفق منهج السلف الصالح صانعي هذه النهضة انطلاقا من قوله تعالى(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) فهو يسير على نهج ابن تيمية في إصلاح النفس أولا لينتقل الإصلاح إلى الآخر فيعم المجتمع كله يقول4:” يجب أن ندرك أوضاعنا وما يعترينا من عوامل الانحطاط وما تنطوي عليه من أسباب التقدم. فإذا ما حددنا مكاننا من دورة التاريخ سهل علينا أن نعرف عوامل النهضة”وبذلك أحطنا تراثنا وإرثنا المجيد بحصن منيع لا تتسرب إليه يد الغدر أو الخداع للنيل منه.
والفكرة نفسها تناولها إدوارد سعيد بمنهج مختلف حيث كان نقده اللاذع لحال المسلمين أولا ثم لكل من مس الدين الحنيف وحضارته الخالدة ثانيا جاعلا من الكلمة القوية والقلم الجرئ سلاحه فكان دفاعه ينطلق من إيمانه بالحق وتبصره به للقضايا ووضع الأمور في نصابها دون انتماء أو انتساب فهو علماني مسيحي إنسي، حداثي استطاع بقوته وحنكته اللغوية وتحليلاته العقلية والمنطقية أن يدافع عن هذه الحضارة ويدعو إلى تحريك همم المسلمين في كل مكان لحصنها ورد الهجوم العنيف الذي مورس ويمارس عليها منذ أمد الآمدين أي منذ أن خمل المسلمون وناموا دون وضع منبه للاستيقاظ في وقت معين فقد وجد في هذه الحضارة بعد اطلاع واسع وتعمق شديد وقراءات متنوعة واصطدام عنيف مع الأعداء ما لم يجده في حضارات أخرى فأحبها وكرس حياته وعلمه لإبراز مكانتها وأهميتها.

مستقبل الحضارة الإسلامية بين مالك بن نبي وإدوارد سعيد
لقد عايش مالك الصراع الإسلامي مع الغرب وأدرك خطر استيراد الفكر وإضاعة الطاقات هباء في المقاهي والصالونات الفكرية، إنه من الذين اكتشفوا أن الاستعمار يسعى أولا إلى أن يجعل من الفرد خائنا للمجتمع الذي يعيش فيه فإن لم يستطع فإنه يحاول أن يحقق خيانة المجتمع لهذا الفرد على يد بعض الأشرار5. فالاستعمار لم يكتف بالنهب والاستغلال وأشكال التدمير المادي والمعنوي، وإنما يحطم قواعد السلوك والخلق والهوية ويستبدل بها ما يؤدي إلى السقوط الخلقي كبوابة دائمة الانفتاح يمكنه أن يلجها متى شاء6. فيؤكد ابن نبي على هذا ضرورة تصحيح العقيدة وتقويتها في نفوس المسلمين حتى ينتج عنها ما تقتضيه من تأثير على مستوى السلوك في كل ميادين الحياة، ويرتبط بتصحيح العقيدة تبصير الإنسان المسلم بوظيفته في الحياة لئلا تتحول حياته إلى عبث.
وإذا كان مالك بن نبي أعطى البديل وهو الرجوع إلى الأصول التي انطلقت منها الحضارة الإسلامية فإن إدوارد سعيد اتخذ منهجا مخالفا وهو مواجهة أعداء الإسلام وكل من حاول رميه أو تهجين قيمه، وهو العربي المسيحي العلماني الذي لم يتوان في الدفاع عن الإسلام والمسلمين منذ أن وعى قلمه ذلك إلى أن فارق الحياة (2003) فقد عمل على كشف التصوير المغلوب الذي تصوره الجنس الغربي في وصف العرب والمسلمين باعتبارهم شعوبا تتسم بالدونية والعنف والاختلاف إلى حد الغرابة وهو تصوير ينزع السمة الإنسانية عن تلك الشعوب ويكرس فكرة تفوق الثقافة والحضارة الغربية فحاول في كل كتاباته وفكره ونقده وأدبه بل وموسيقاه رد الاعتبار للثقافات وأنماط الحياة الإنسانية على اتساعها والثقافة الإسلامية خاصة مؤكدا أن الديموقراطية والحداثة وغيرها من المفاهيم التي لا تحمل مدلولا وحيدا مقتصرا على الرؤية الأوربية أو الغربية بشكل عام والتي تقيس المجتمعات الأخرى بمقاييس من المركزية الثقافية.

الهوامش
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أستاذة بالكلية متعددة التخصصات بالناظور – المغرب1
2- موسوعة الحضارة الإسلامية لأحمد شلبي، 1/50، مكتبة نهضة المصرية، القاهرة، 1987.
3- الإسلام حضارة الغد، ليوسف القرضاوي، ص303
4- وجهة العالم الإسلامي لمالك بن نبي نقلا عن مقال فكرة الحضارة وتحديد المشكلة الإسلامية عند مالك بن نبي لنور الدين خندودي، ص 120، مجلة الجهاد، عدد 106، السنة 10جمادى 1404، يناير 1992.
5- الصراع الفكر في البلاد المستعمرة لمالك بن نبي، ص 125، وينظر ايضا أسئلة الفكر المنهج والفعالية في ثرات مالك بن نبي لمحمد البنعيادي، ص 44.
6- أسئلة الفكر المنهج والفعالية في تراث مالك بن نبي لمحمد البنعيادي، ص 446

المصدر: الملتقى الدولي: مالك بن نبي : مفكر شاهد ومشروع متجدد من تنظيم جمعية النبراس الثقافية المغرب 2005م.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.