الثقافة والأزمة الثقافية في العالم الإسلامي
إنني أذكر ولعل بعض المستمعين يذكرون معي، أن مائدة مستديرة عقدت في دمشق بعد أحداث حزيران 67 لتدرس أسباب الأزمة التي واجهتها وعاشتها الأمة العربية بأجمعها. لقد ساهم في هذه المائدة صديق لي من فرنسا هو السيد جاك الذي نشر خلاصة مناقشات هذه المائدة في مجلة تصدر باريس تحت عنوان “أزمة حزيران كانت أزمة ثقافية”. ولعلنا من خلال هذا العنوان نستطيع أن ندلف إلى موضوعنا “مشكلة الثقافة”. فأزمة حزيران هي ككل أزمة وليدة فكرة ذات تطبيق اجتماعي. والأزمة في هذا الإطار تنشأ من إحدى ناحيتين: إما من سوء إدراك للمفهوم وإما من خلل في التطبيق. ومن هذين الافتراضين سوف ندخل إلى موضوعنا. فهل هناك خطأ في إدراك المفهوم؟ أم أنه خطأ في التطبيق؟ إن هذا ما يعنينا. فالاجتماع الأول يدعونا لأن نطرح السؤال: ما هي الثقافة؟ ولقد عرض هذا السؤال نفسه على شخصية كبيرة هو “إدوار هوريو” وكان عميداً لكلية الآداب في “ليون” الجامعة الثانية في فرنسا ورئيساً للبرلمان الفرنسي وعمدة ليون ثاني مدن فرنسا كذلك فكان جوابه إلى حد ما غريباً حين قال لسائله وأظن السائل صحافياً: “الثقافة هي ما يتبقى عالقاً بالأذهان عندما ننسى ما تعلمناه على مقاعد الدراسة والجامعات”. ربما كان هوريو يحاول التخلص من السؤال في واجبه هذا. فالسؤال على ما أظن طرح سنة 1936 وفي ذلك العهد لم تكن قد أجريت بعد دراسات منهجية حول موضوع الثقافة كما تجري اليوم ومنذ الأربعينات تقريباً في المدرسة الأمريكية على الخصوص. إذ أخضعت هذه المدرسة مفهوم الثقافة لدراسة موضوعية كظاهرة اجتماعية كبرى عبر التحليل الاجتماعي وسائر طرق البحث العلمي. فالسيد هوريو كما يبدو أراد التخلص من السؤال فأجاب عليه بما يشبه نكتة إنما هو في الحقيقة أكثر من ذلك. فقد وضع بهذا الجواب الذي جاء عفوياً فاصلاً كبيراً بين الثقافة وما نسميه العلم. (أي نتيجة التعليم على مقاعد المدرسة والجامعات) كما أشار هوريو. فالنكتة التي بدت في رد هوريو أعطتنا إذن مقياساً يجعلنا نميز مقدار الخطأ إن كان ثمة خطأ في تفهمنا لقضية الثقافة. إن كلمة الثقافة نفسها وردت في مقدمة ابن خلدون مرتين أو ثلاثاً في فصول موزعة من المقدمة دون أن يكون لمدلول الكلمة ضبطاً يحمل إلينا معنى الثقافة كما نفهمه أو نحاول أن ندركه اليوم. فكلمة الثقافة تبدو لي في مصطلح ابن خلدون مرادفاً لما يسميه في مصطلحه الخاص (الصناعة) صناعة النحو، صناعة الفقه، صناعة الطب… الخ. فكل فن، أو تقنية كما نسميها اليوم، يسميه ابن خلدون صناعة وأحياناً يجمع مجموعة الصناعات (أي ما نسميه اليوم تكنولوجيا) بكلمة ثقافة إنما مدلولها اليوم قد اتسع أكثر من ذلك بكثير. لقد بقيت الكلمة في الحقيقة نادرة الاستعمال في اللغة العربية كما أعتقد. وقد نعثر عليها في لسان العرب إنما مجرد فعل “ثقف ـ يثقف: أي قوم ـ يقوم” وهي بهذا المعنى تقربنا فعلاً من فهم مدلول الثقافة اليوم. بيد أن الكلمة أو المصطلح قد أخذ نفساً في عصرنا الحاضر وبدا كأنما تجدد في اللغة العربية. وأظن أن الأساتذة الكرام هم أعلم مني بمنشأ كلمة الثقافة وتداولها كمصطلح عربي في أدبياتنا ولعله يعود إلى الربع الأول من القرن العشرين ليس أكثر من ذلك فنحن مثلاً لا نجد لها أثراً في كتابات عبده ولا كتابات جمال الدين على ما أعتقد. وفي الربع الأول من القرن العشرين في مصر، كما أخبرني الأستاذ شاكر الذي هو أعلم مني باللغة العربية والآداب العربية، أن أحد الأدباء المشهورين في تلك الفترة هو سلامة موسى هو الذي أعطى لكلمة ثقافة نفسها في التاريخ الثقافي العربي كمصطلح. وبالرغم من أن الكلمة قد استعادت نفَسَها الجديد في اللغة العربية فإننا لا نراها تدل دلالة واضحة على الشيء الذي يتعين علينا فهمه. ففي ضوء أزمة كالتي عالجتها المائدة المستديرة التي انعقدت في دمشق إثر أزمة سياسية يجب علينا أن نسير بقدر الإمكان غور هذا المفهوم المتورط اليوم من ناحيتين: فهو متورط أولاً إلى حد ما (حتى في المجتمعات المتقدمة) لدرجة أنه مميع في مفهوم تضييق حدوده الاجتماعية إلى مجال معين هو مجال الترفيه والتسلية. فيسمى ثقافة كل ما يتعلق بذلك. فتأسست وزارات لهذا الغرض بحيث تعني كلمة ثقافة (خصوصاً في البلدان الشرقية ـ ونستثني الاختصاصيين ـ كالصين الشعبية والاتحاد السوفيتي مثلاً) مجال التسلية بكل وسائلها. هكذا تورطت الكلمة بحيث ماع مدلولها في مجال لا يعني بالنسبة إلي ما تشير إليه مثلاً كلمة أزمة ثقافة شيئاً. فالأزمة الثقافية لا اتصال بينها وبين المجال الترفيهي ومجال التسلية طبعاً. فنحن لم نواجه أزمة ثقافية, لأننا لم نحسن كيف نتسلى أو كيف نرفه بل ربما لأننا لم نحسن العمل في نطاق ما أسميه (العمل المشترك) العمل الذي تتجمع في نطاقه وتتكاتف الأيدي والعقول والضمائر. فالثقافة قد تعطينا فرصاً للتسلية، فمجال التسلية يدخل فعلاً في نطاق الثقافة. إذ في درجة معينة من درجات سلم القيم الثقافية تدخل أشياء الترفيه، أو أشياء التسلية، ولكن ليست الثقافة هي التي تعلمنا كيف ننشد مجتمعين نشيداً وطنياً مثلاً أو أغنية ما، أو نعزف عزفاً بموسيقى معينة. الثقافة: هي ـ كما تعبر عنها الأزمة ـ قبل كل شيء الجو الذي تتكتل فيه الجهود حين تجد في هذا الجو كل شروط تكتلها وتجمعها وتجد المسوغات لذلك. وإذا تركنا جانباً تورط الكلمة في استعمالها عن بعض البلاد المتقدمة اليوم كمجموعة وسائل الترفيه والتفتنا إلى الجانب الثاني من تورطها والذي يهمنا أكثر أن نراها أيضاً منذ بداية ما نسميه عصر النهضة العربية، قد تورطت في شيء أفقدها نسبياً ثلاثة أرباعها أو 75% من مجالها لأننا وضعنا في كلمة ثقافة مدلول العلم، ومحتوى العلم، واعتقدنا أن العلم هو الثقافة، وأن الثقافة هي العلم. وقد أحدث هذا التورط النتائج التي كانت متوقعة منه. يجب علي هنا أن أحدد في ما يخصني كإنسان مسلم وعربي كيف اتجهت لمحاولة تفهم الثقافة وما يحيط بها من مشكلات في المجتمع العربي والإسلامي مما جعلني اختلف في وجهة نظري حول الثقافة إلى حد كبير مع أولئك الذين يدرسون الثقافة في الغرب. لقد بدأت كما أوضحت منذ الأربعينيات في ما أعتقد دراسة الثقافة كظاهرة اجتماعية حين صدرت دراسات في أمريكا (رالف لمنتون) و(بورغ) مثلاً ثم تتابعت هذه الدراسات وظهرت أحياناً في نطاق كتب ذات طابع سياسي مثل كتاب (ماوتسي تونغ) “الديمقراطية الجديدة” حيث تناول في أحد فصوله مشكلة الثقافة و”يادنوف” الذي قدم تقريراً كبيراً عن الثقافة في المؤتمر 21 الشيوعي في ما أعتقد وهذه كلها دراسات قيمة. ولكن بماذا نختلف نحن مع هذه الدراسات وخصوصاً الدراسات الأمريكية؟ إننا نختلف في شيء جوهري وليس لمجرد الاختلاف. فالاختلاف مفروض علينا جوهرياً أو بطريقة جوهرية. فالدارس للقضية في أمريكا أو إنكلترا أو فرنسا، يدرسها كأنه يصف واقعاً اجتماعياً، يعني ظاهرة شاخصة أمام عينيه, فيقف منها إلى حد كبير موقفاً وصفياً. موقف الإنسان الذي يصف ظاهرة ويريد تقديم أوضح صورة عنها بما ينبغي عليه أن يحدد خطوطها العريضة والقصيرة. لكننا حينما نتصدى نحن لدراسة كهذه, فنقطة انطلاقنا تختلف تماماً عن نقطة انطلاق الدارسين في البلاد المتقدمة. لأننا لا ندرس واقعاً اجتماعياً شاخصاً أمامنا بل ندرس شيئاً خفياً لا تبصره أعيننا ماثلاً في واقعنا الاجتماعي أو هو معدوم الوجود إلى حد ما في مجالنا الوطني أو القومي الحضاري. وهنا فنحن نتحرك من نقطة نحاول بقدر إمكاناتنا أن نطرح خطط الإنشاء لا صور الوصف كما يفعل الغربيون. وخطط الإنشاء تختلف عن صور الوصف كما يعلم إخواننا المهندسون. فالإنشاء يقتضي على الأقل أبعاداً ثلاثة: طول وعرض وارتفاع، وأحياناً ليتوجب بعض المقاطع بقدر تَعَقُّد الشيء المراد وضع المخطط الإنشائي له. لكن الصورة الوصفية للوحة معلقة تعطينا فعلاً ملامح الشيء كما تراه العين التي صورته بقدر ما تكون صادقة في تصويره حقيقة وليس على مذهب بيكاسو وليس بريشة بيكاسو. وبهذا تكون الصورة واضحة إلى حد ما إنما لا تعطينا وسيلة لإعادة بناء الشيء المصور. فالمنطلق في دراسات الغربيين يختلف إذن تمام الاختلاف عما نراه كمنطلق دراسات تقوم حول هذا الموضوع في البلاد العربية والإسلامية. ولقد قامت وبدأت فعلاً دراسات متخصصة في البلاد العربية لكننا نلاحظ مثلاً أن كلمة ثقافة مازالت غير متورطة في عالم مصطلحاتنا الفنية إلى درجة أن الدراسات المتخصصة في الموضوع تضع كلمة ثقافة وبجانبها بين قوسين كلمة “Culture” ومعنى هذا أن الكلمة في العربية لا تزال في نظر المختصين في هذه الدراسات غير وافية بدورها كمفهوم علمي يؤدي معنى محدداً إذا لم توضع لها ركيزة أجنبية تتوكأ عليها. ولا نشير إلى هذه الملاحظة من قبيل النقد أو الانتقاص من أسلوب الدارسين الذين يضيفون إلى مصطلح “ثقافة” مفهومها الأجنبي، فدوام الاعتماد على المصطلح العربي لا بأس به لعشر سنوات أو لخمس عشرة سنة من بداية الاتجاه نحو هذه الدراسات في محيطنا العربي لكن الاستمرار في ذلك يعني أنه حتى الآن لم يكتسب مصطلح الثقافة توطنه الكامل في لغتنا فندعمه بكلمة أجنبية يتوكأ عليها ليعرف بنفسه أنه قرين كلمة .”Culture” أو رفيقها إذن فمنطلقنا يختلف تماماً عن منطلق الآخرين ويجب أن يختلف للأسباب التي قدمتها. إنما من المفيد في هذا اللقاء أن أحدد كيف تكون هذا المنطلق وما هي الأسباب التي دعت إليه، أو التي دعت إلى تحديد موقفي هذا في دراسة الظاهرة التي نطلق عليها اسم ثقافة؟ هذا أمر يدخل في نطاق معاناة شخصية، وخبرة مبنية على تجربة ومحنة، ككل عربي ومسلم يعيش القضية طبعاً وهو يشعر بثقل التصرفات الفردية والاجتماعية في المجتمع العربي أو بشيء من الثقل الذي نسميه أحياناً بالانحراف. فلو نظرنا إلى الثقافة، وإلى عملية التثقيف على أنها علم فقط، نكون إذن وكأنما فصلنا القضية عن جوهرها، لأن العلم لا يدعي، وليس من وظيفته أن يقدم المبررات. فالعلم ليس للمبررات وهو لا يقدم الكيفيات. إنه يجيب عن سؤال كيف فقط. فمنذ أن تأسس العلم على المبادئ التي قررها “ديكارت” في القرن السابع عشر والتي استنتجها من معركته مع المدرسة “السكولاستية” إذ كان ديكارت يرى أن هذه المدرسة، قد عطلت سير الإنسانية، فأراد التخلص منها فتخلص في الوقت نفسه من اتجاه فكري عظيم. إنه اتجاه الفكر الذي يضمن للمجتمع جانب المبررات أي الجواب عن لماذا؟ فأضحى العلم بذلك لا يجيب إلاّ عن سؤال واحد هو: كيف؟ وحينما جاء نيوتن مكتشف الجاذبية بعد قرنين من ديكارت وجدناه يصوغ قانون الجاذبية صياغة تتجنب طبقاً لمنطق “ديكارت” أن تتورط في ناحية المبررات. فجاءت صياغة قانون الجاذبية كما يعلم طلاب الجامعات بهذا النص: .”الأشياء تسير كأنما الأجرام تتجاذب طبقاً لشحنتها المادية على عكس مربع أبعادها” “إنما” و”ليس” “إذ التعبير” “كأن” يأتي وفق مبادئ ديكارت التي تقدم العلم على أساسها والتي تتجنب “لأن”. أي تتجنب الجواب عن “لأن” فتتعمد إلى استعمال “كأن” وهذا التعبير هو الذي يحمل طابع واتجاه العلم الجديد الذي نشأ طبقاً للمنهج الذي قرره “ديكارت.” فلو أن العلم بقي في مفهومه كما كان قبل “ديكارت” لربما جاز لنا أن نقول إن العلم يساوي الثقافة ونقول ربما. لكن العلم اليوم لا يجيز لنا ذلك؛ لأن العلم في مفهومه الحديث لا يقدم المبررات ولا يهتم بهذا الجانب لأنه يهتم بالكيفيات: كيف نصنع؟ كيف نفعل؟ كيف تسير الأشياء؟ هذا هو العلم بكل أسف، وأقول بكل أسف من دون استثناء أو استدراك ودون أن يبهرنا هذا العلم. فنحن نعترف أولاً بما أنتجه هذا العلم الحديث الذي وصل إلى صنع الصاروخ السادس عشر الذي هو في طريقه اليوم حول القمر إلا أن هذا لا يبهرنا. فحياة البشر أفضل وأثمن بالنسبة إلينا من سير صاروخ في الفضاء. وحياة البشر اليوم معرضة بسبب فقدان المبررات إلى مورطات كبرى، تُرى ملامحها اليوم في المجتمعات المتقدمة، وأذكر الإحصائيات التي تدلنا مثلاً على أن بلداً كالسويد وهو في المقدمة من المجتمعات الراقية يتصدر إحصائية الانتحار في العالم. هذا يعني أن هذا الوطن الغني الثري، والذي فيه العلم يستطيع أن يجيب عن كل سؤال يتضمن كيف؟ هذا الوطن نفسه أصبح عاجزاً عن الإجابة عن سؤال لماذا؟ بل إنه لا يقدم لحياة الأفراد المبررات التي تضمن لهم شروط الحياة البشرية. إذ تبين أن الحياة البشرية في حاجة إلى أشياء أخرى فوق ما تضمن المؤسسات من توفير لقمة العيش والرفاهية إنها تظل مع ذلك إلى أشياء أخرى. قلت أن كلمة علم تورطت، وربما كانت ورطتها ضرورية للتخلص من المواقف السحرية التي كان يقفها العلم والعلماء قبل ديكارت بحيث أن كثيراً من العقول الإنسانية كانت تقتنع بتفسير الظواهر، والطبيعية منها خاصة، بكلمات غريبة مثلاً كما كان يجري في البلاد الإسلامية في العصر الصوفي. “سيدنا الشيخ أراد ذلك” فالعصر الصوفي في البلاد الإسلامية والعربية كان عصر التفسيرات السحرية للظواهر الاجتماعية كالقول “أراد سيدنا الشيخ فلان كذا” أو “أراد سيدنا الشيخ ذاك”. وهذا ما أراد ديكارت أن يخلص فعلاً الفكر الأوروبي والفكر الإنساني منه ولقد نجح إذ أراد ذلك لكنني أخشى أن يكون نجاحه أبعد من الشرط ومن الحد الذي يضمن للإنسانية المبررات المشروطة الضرورية لحياتها. كيف شعرنا وشعر الفرد المسلم العربي بأن العلم علمه، ونعلمه لأولادنا في المدارس والجامعات، لا يؤدي وظيفة الثقافة أو بعبارة أخرى لا يقدم المبررات الاجتماعية للأفراد ولا للمجتمع. كيف شعرنا بهذا في حياتنا؟ بصورة بسيطة فأنا من هذا الجيل، وابن هذا القرن ومن مواليد1905 وقد واكبت وعايشت كل أحداث القرن الكبيرة تقريباً، والتطورات التي حدثت في بلدي الجزائر (وهي بلد عربي وإسلامي مثل الشقيقة سورية) فلاحظت أشياء وتصرفات وأمواجاً تاريخية كبرى، ولاحظت معارك سياسية فماذا كانت نتيجة ملاحظاتي؟ إن سلوك الفرد العربي المسلم (الجزائري طبعاً، لأن مجال ملاحظاتي كان الجزائر) مشروط بشيء من السلبية أو لنعكس القضية فنقول إنه كان فاقداً لشيء من الإيجابية، أعني لشيء أساسي من الفعالية بينما كنت أرى في الوقت نفسه أن سلوك الآخرين ينطبع إلى حد كبير بالإيجابية والفعالية. وهكذا أصبحت القضية واضحة في ذهني: هل العلم هو سبب هذا؟ كلا فالعلم الذي تعلمه هذا الإنسان أو ذاك هو علم واحد. وأتورع ولا أجيز لنفسي أن أثقل عليكم بذكر أشياء لا حاجة لنا في ذكرها سواء حدثت في المراحل القريبة أم في المراحل التي تخللت العقود البعيدة عنا في هذا القرن. ويكفيني هنا أن أذكر هذه القضية البسيطة: دكتور مبرز: ناجح تماما النجاح في دراسته الطبية. أقول هذا وأنا ليس لي أي حق أن أقدم علامات النجاح لطبيب, وإنما أقول هذا على لسان رئيس لجنة الدكتوراه. فعندما انتهى امتحان هذا الشاب الجزائري الذي كان شاباً قبل أربعين عاماً أما اليوم فهو شيخ كبير قام رئيس لجنة الامتحان وقال لهذا الشاب الطبيب الجزائري “إنني انتظرك على عتبة هذه الجامعة لتعود إلينا كزميل” وقد تخرج في الدفعة نفسها، وعلى أيدي الأساتذة أنفسهم، وعلى المقاعد نفسها في جامعة الجزائر طبيب من جالية أخرى، من طائفة أخرى هو الطبيب (أبو الخير) اليهودي وكان أيضاً طالباً نجيباً ولكن دون درجة الآخر. فإذا وضعنا الأمور بمقاييس الدرجات العلمية نرى أن الأول يسبق الثاني في الامتياز ولكن من أجل ألا نتورط في مقاييس غير صحيحة في هذا المجال فإن علينا أن نلاحظ بموضوعية سعي كل منهما في سبل الحياة كل منهما في طريقه. فالطبيب الجزائري المجلي في إطار العلم قد أصبح هو أيضاً شخصية مرموقة في المجال السياسي والطبيب اليهودي المجلي هو أيضاً لكن في درجة أقل من الطبيب الجزائري قد أصبح هو أيضاً شخصية سياسية مرموقة في المجال اليهودي أي (بين صفوف الطائفة اليهودية). ولقد أتيح لي أن أتتبع سلوك كل الرجلين فرأيت المتناقضات. فالمواقف السياسية التي وقفها أخونا العربي المسلم كانت كلها مواقف مطالبة، وإعلان الغضب أحياناً على الإدارة طبعاً لكن إعلان الغضب هذا اقتصر على برقيات تنشرها الصحافة ترفع عبارة الاحتجاج ضد كذا…الخ كتلك العبارات التي لا تعني شيئا.ً لكن الطبيب اليهودي كان صامتاً سحابة ذلك الوقت الذي امتد عشرين عاماً أو خمسة عشر عاماً قبل الحرب العالمية الثانية فيما الطبيب العربي المسلم كان يطالب بالحقوق وبنشر العلم الذي كان في حدوده الضيقة طبقاً لسياسة المصالح الاستعمارية وكان يحتج على سكوت الحكومة وعدم اكتراثها وعدم اهتمامها ثم يشكو بأن أبناء العرب المسلمين عاطلون عن العمل… الخ. ولقد كان له الحق في ذلك كله وكان على صواب في كل ما يشكو منه ولكن عند مقارنته بما فعل الطبيب اليهودي في ظروف مماثلة بعد حوادث يوليو سنة1940 أو بعد حوادث حزيران ـ حزيران دائماً له رائحة غير طيبة في تاريخ الإنسانية ـ فقد انهارت فرنسا في ذلك الوقت واستولى على الحكم الجنرال “بيتان” وأصبح تحت الضغط أو بإرادته واختياره يطبق قوانين (هابرغ) تجاه الأقلية اليهودية القاطنة في فرنسا وفي الجزائر. كانت هذه القوانين تقضي بتحديد نسبة المتعلمين من أبناء اليهود المقبولين للدراسة أي نسبة معينة في المرحلة الابتدائية وفي المرحلة الثانوية نسبة أقل وفي المرحلة الجامعية تصبح النسبة مفقودة تقريباً. لقد طبقت هذه بصرامة وخصوصاً في الجزائر لأن فيها تياراً ضد اليهود بسببنا أو بسبب الأوروبيين إذ أنه حتى الأوروبيين كانوا ضد اليهود في الحقيقة. لم يرتفع صوت يهودي لمطالبة حكومة “بيتان” أبداً. ولكن نظمت حلقات في بيت كل يهودي، وأصبح كل يهودي يحمل أي درجة من التعليم أستاذا في بيته حتى المستويات العليا (الجامعة). وفي خلال سنتين لم تضع على طفل أو شاب يهودي ساعة واحدة من الدروس وزيادة على ذلك فقد تقدم رئيسهم الدكتور (أبو الخير) ليتحادث مع قيادة الحلفاء باسم الجزائر يوم نزل الحلفاء في الشمال الإفريقي في 8 نوفمبر1942 بينما الزعيم الجزائري (الزعيم الكبير) والذي كانت له نسبة %90 تقريباً من أصوات الجزائريين لم يتقدم بشيء. لأي ناحية نعزو هذه الفعالية في سلوك الدكتور اليهودي وقلة الفعالية أو السلبية هذه في سلوك مثقفينا؟ هنا تبرز لنا الأزمة الثقافية في صورتها التي لا توحي بها ظروف أو أيام محنة، فالعرب لم يخسروا الحرب وإنما خسروا معركة وهم سوف يستعيدون إن شاء الله بلادنا ومقدساتنا. إذن الأزمة التي تهمنا ليست الأزمة التي تدوم خمسة أيام، بل هي الأزمة التي تدوم لسنين والتي تخشى أن تدوم العقود من السنين وربما تدوم القرن إذا لم نلتفت لها بكل جد وعناية. وهنا نعود مرة أخرى لنتساءل: ما هي الثقافة التي تحدد لنا سلوك هذا الفرد سواء كان عالماً أو غير عالم. وتحدد لنا ـ كما سنرى ـ أسلوب الحياة في المجتمع بحيث يتحقق الانسجام بين سلوك الأفراد وأسلوب الحياة في المجتمع، وتنشأ رقابة بين الطرفين رقابة طبيعية إذا اختل شيء ما في سلوك الأفراد تنشأ ردود الأفعال في أسلوب الحياة لإيقاف الانحراف أو الخطأ في السلوك والعكس بالعكس. فمثلاً “سقراط” الرجل الحكيم ومؤسس العقلانية، نستطيع أن نقول إنه مات ضحية هذه الرقابة, لأن المجتمع الإثني، والثقافة الإثنية أدانته وحكمت عليه بالإعدام حتى شرب بنفسه كأس السم. وهذا يكون عندما تحدث الرقابة من ناحية المجتمع إلى ناحية الفرد أو من جانب (نحن) إلى جانب (الأنا) والثقافة هي التي تنشئ هذه الرقابة بين (الأنا) و(نحن) وتنشئها على أساس المبررات التي لا يقدمها العلم. وأحيانا نرى أن الفرد هو الذي يثور على المجتمع مثلاً: ثورة سيدنا (عيسى) عليه السلام على المجتمع اليهودي كانت ثورة عنيفة حيث سماهم في آخر (أيام الفصح) كما أظن واتهمهم في كلماته الأخيرة (يا أبناء الأفاعي) وهذا الاتهام ورد الفعل كانا عنيفين وهما أشد ما يكون من فرد إلى مجتمع. فالثقافة هي التي تنشئ الرقابة المزدوجة، أحياناً من جانب (نحن) كرد فعل لانحراف (أنا) معين، وأحياناً من طرف (أنا) معين ضد مجتمع وهي توجد وتكون وتنشئ هذه الرقابة من الطرفين بحيث لا تسمح بحدوث نشوز. وفي ضوء هذه الملاحظات نعود لنتأمل عبارة (أزمة ثقافية) سواء نتجت عن أيام حزيران أو بعدها أو قبلها، في حياتنا اليومية، وذلك طبقاً لما اكتسبناه من خبرة في الموضوع هي حصيلة مقارنات في مجال السياسة أو الاقتصاد أو سوى ذلك. وهنا لا بد أن تكون هذه المقارنات قد قيست بمقياس الفعالية التي هي دوماً المعيار الذي نتخذه في تحديد مفهوم (الأزمة) فليس تطفلاً أننا نبحث عن الفعالية دوماً في مجتمعنا العربي والإسلامي بل إننا نعبر عن حاجة أساسية ندفع بها غائلة التخلف الذي يسم عالمنا. فنحن الآن أمام الملأ العالمي نوصف بالعالم المتخلف أو أننا جزء من العالم المتخلف، وهذا يتصل بلقمة العيش وهو أمر ليس بالهين لنزهو فيه أو نلتفت عنه. فهذا قلل فعاليتنا بسبب سلوك بعض أفراد مجتمعنا المثقفين أو غير المثقفين فنحن إذن أمام حاجة تطبع سلوكنا بالفعالية. فإذا كان التعليم والعلم لا يكفيان لطبع سلوكنا بالفعالية فإن علينا أن نتجه إذن اتجاهاً آخر لأننا قد ورطنا مفهومنا للثقافة عندما نظرنا إلى العلم على أنه يطبع سلوكنا بالفعالية، وأنه يمدنا بالمبررات بينما العلم ليست هذه مهماته ولا وظيفته. فالعلم شيء حيادي لا يريد الخير ولا الشر وإنما يسعى للجواب عن “كيف” فقط. أما الثقافة فهي تريد الخير وإذا ما انحرفت المواقف الثقافية تصبح تريد الشر. وإذا نحن في ضوء هذه الملاحظات وسعنا المقارنات في المجال الاقتصادي والمجال الاقتصادي يبين لنا إذا ما تساءلنا: هل أموال العرب المكدسة اليوم في العالم الغربي لها فعاليات أموال غير العرب؟ فالجواب بالنفي طبعاً لأنكم تعلمون أن الأموال المكدسة في البنوك الأجنبية للعرب تمثل جزءاً كبيراً من رصيد الدول المستعمرة، بحيث أنه لو سحبت هذه الأموال لوقع خلل في ميزانية المصارف الكبرى مثلاً (المصرف الوطني) في إنكلترا على وجه الخصوص. إذن يجب أن نقول: إن السلوك الفعال، وأسلوب الحياة في المجتمع، لا يتكونان على أساس العلم وإنما يتكونان على أساس الثقافة مع الملاحظة بأن هذا التكوين ينشأ مع الطفل منذ اليوم الأول في المهد. وهذا التكوين يختلف عن الوعي الذي يتكون في سن الخامسة أو السادسة من العمر والذي يكتسب العلم عبره. ولقد سألني أحد أقاربي وقد ولدت له حفيدة فقال: ولدت لي ابنة ابني فلان فكيف تشير علي بتربيتها؟ أدركت الموضوع فتعمدت استثارته مداعباً لكن مداعبتي كانت تنبئ عن الحقيقة فسألته منذ كم ولدت؟ قال منذ شهر ـ قلت: إذن لقد فات شهر من التربية أو التثقيف. لقد تذوقها كنكتة كما أراكم تذوقتموها الآن لكنها في الحقيقة ليست نكتة. فالطفل يبتدئ تكوينه النفسي في زمن مبكر أكثر مما نتصور عادة, إذ ملامح تكوينه النفسية تتكون قبل ما تتصوره الأسر التي نحن منها. فالطفل لديه طريقة للإدراك ـ ليست كطريقة الكبار طبعاً ـ إذ الطفل لا يفكر، ولا يختار بين هذا الشيء محرق وهذا غير محرق لكنه يدرك هذا بشيء من لا شعور أو بشيء باطني وعبر امتصاص نفساني, فكما أنه منذ نشأته وخروجه من بطن أمه, يتنفس فيفتح فاه ومنافذه لاستنشاق الهواء الضروري لحيلته منذ اللحظة الأولى حتى أن الوليد يضرب أحياناً ليفتح فمه كي ينطلق الهواء من منافسه كذلك فإن الطفل له كيان نفسي منذ اللحظة الأولى لمجيئه. فهو يبدأ لا شعورياً ودون تدخل الإرادة بتمثل الأشياء والعناصر التي نسميها (العناصر الثقافية). فماذا أسمي هذا وكيف أحدده؟ لو عدت الآن للسؤال الذي طرح على السيد (هوريو) سنة1936 ما هي الثقافة؟ أقول: هي الجو المتكون من ألوان وألحان ونغمات وروائح وسكنات وأضواء ومن جوانب مظلمة، إنها هذا الجو كله الذي تتفتح فيه النفس وتشعر بوجودها في إطار عام. والآن إذا قمنا بمراجعة بسيطة سريعة وتساءلنا: لماذا اختلف سلوك الطبيب الذي أخذناه كمقياس للمقارنة عن سلوك الطبيب الآخر؟ فالجواب: إنه”كل منهما وجد في جو ثقافي مختلف منذ المهد أي منذ الأيام الأولى لحياته. ثم نسترسل في المقارنة ونضع بعض الملاحظات عن كيفية النمو النفسي عند الطفل. ـ يولد المولود على الفطرة من الناحية النفسية ولكنه يبدأ بامتصاص وتمثل الجو الخارجي أي العناصر الثقافية التي حوله من ألوان وأصوات وسلوك ومن أفكار (لا تعني شيئاً بالنسبة للفكر) ولكنها تحمل رسائل إلى لا شعور الطفل. فهذا الطفل سيجد منذ نشأته في المهد اختلاف سلوك ذويه عن ذوي غيره. مثلاً: الأم وهي أقرب الناس للطفل. الأم الحنون التي يجرها إسراف في حنانها إلى إفراط في العطف يزيد عن درجة معقولة: يصرخ الطفل ـ وهذه فطرته ـ للمرة الأولى وأظن أن هذا يقع في اليوم الثاني إذ في اليوم الأول لا يتغذى الطفل فيما أعتقد (على كل حال هذه الأشياء يعرفها الأطباء والأمهات) فالطفل إذن حين يشعر بالجوع يصرخ فتأتي الأم وتغذيه فإذا تكرر هذا من دون قيد أو شرط أي كلما صرخ الطفل أتت أمه لتغذيه، ينتج عن هذا خلال أسبوع واحد فقط أن الطفل يسجل في أعماقه واقعاً, وهو أن هذا العالم (العالم هو بيته بالنسبة إليه) إنه حين يصرخ يستجيب له. أما من ناحية أخرى، فإن الطفل حينما يكون الإرضاع منتظماً (مرة كل ثلاث أو أربع ساعات) ولا يقدم له ثدي أمه إلاّ في الحدود والمواقيت المقررة وفقاَ لتعليمات الطبيب فإن الطفل إذا صرخ في المرة الأولى والثانية والتالية دون جدوى يعرف حينئذ أن العالم لا يستجيب للصراخ وأن المشاكل لا تحل بالصراخ ينشأ عنده منذ الأسبوع سلوك يختلف عن السلوك الأول جوهرياً إذ الطفل الأول يحل مشكلاته بالصراخ والثاني يعرف أن الصراخ لا يحل مشاكله. هل يكفي أن نحدد الثقافة بهذه الطريقة؟ أي بأنها الجو المتكون من ألوان وألحان وسكنات وحركات وروائح وأفكار لا يدركها العقل ولكن يدركها اللاشعور نسميها الأفكار المنبتة في الجو العام؟ في الواقع هذه لوحة ذات بعدين: أي لوحة تتركب من صوت وضوء كما في بعض المهرجانات التي تسمى مهرجان (الصوت والضوء) لكن هذه اللوحة لا تعطينا (كما أشرت سابقاً) تركيباً للثقافة، بل تركيبا تربوياً، تركيباً ننشئ منه برنامجاً تربويا. ولكن بمراجعة المقارنات التي انطلقنا منها أعني المقارنة بين سلوك فعّال وسلوك غير فعّال. بين أسلوب حياة يسوده النظام والانسجام وأسلوب حياة فوضوي (وهنا لا بد من الإشارة إلى أنني حينما أتكلم عن الأسلوب، فإنني أتكلم عن المجتمع عن الجانب الذي نسميه “نحن” وحينما أتكلم عن سلوك فإنني أتكلم عن الفرد “الأنا”) نرى أن سلوك الفرد وأسلوب الحيلة في المجتمع، والتجارب والتفاعل بينهما كما ذكرنا يفرض رقابة من هذا على ذاك ومن ذاك على هذا. إذن لا بد أن تفرض الرقابة، وإذا انعدمت هذه الرقابة، اختل الأمر، وإذا اختلت الرقابة، فمعنى هذا أنه نشأت “أزمة ثقافية” أو هي في طريق النشوء. ونحن عندما نطرح سؤال: ما هي الثقافة؟ فإننا في الحقيقة نواجه ضرورات اجتماعية معينة. فنحن إذن لا نطرح السؤال بطريقة أن الجواب لا يعنينا إلاّ من ناحية نظرية. كما هو الأمر بالنسبة للدارس في أمريكا مثلاَ أو في فرنسا وغيرهما. فهذا الأخير يدرس المشكلة وإذا وفق فقد وفق وإن لم يوفق فما أضر شيئاَ. نحن نطرح السؤال لأننا نبحث عن سفينة النجاة، وبالتالي، فموقعنا مختلف. لأننا نبحث عن الجواب في ضوء ضرورات شاهدناها، في ضوء أزمة عشناها، ومحن مررنا بها. إذن فموقفنا ليس كموقف الآخرين. الحقيقة أننا نواجه فقدان المبررات في مجتمعنا وقد بدأت الحديث عنها ربما قبل أوانها لكن لا بأس، المبررات التي تخضع سلوك الفرد لمصلحة الجماعة، وللصالح العام أي الإرادة “نحن”. فإذا فقدت هذه المبررات فهذا معناه أن الصلات الاجتماعية التي يقوم عليها المجتمع إما ضعيفة أو مفقودة، لأن مجموعة أفراد وإن كانت تتعايش في مدينة أو بلد واحد فهذا لا يعني أنها تكون مجتمعاً. فالمجتمع تكونه وظيفة، وهو يؤدي وظيفة، والأفراد فيه ينسجمون مع وظيفة المجتمع، فإذا ما اختلت وظيفة المجتمع اختلت علاقة الأفراد في المجتمع وهذا معناه أن المجتمع مفقود أو أن المجتمع نفسه معطل عن القيام بوظيفة. إذن مجموعة من البشر لا تكون مجتمعا وبالتالي علينا إذن أن نقول: إن الشيء الذي نريده من الثقافة هو أن تبسط بين الأفراد شبكة علاقات اجتماعية معينة تضمن للفرد عناية ورعاية المجتمع من جانب ومن جانب آخر تضمن المجتمع من انحراف ونشوز الفرد. فالشيء الأول الذي ننتظر من الثقافة أن تقدمه هو: أولاً: أن تمنحنا الثقافة انسجام الأفراد مع المجتمع. وبذلك يتكون المجتمع إذا لم يكن موجوداً ويقوى وتنفك عنه أزمته إذا كان موجوداً. فالتمسك شرط كتماسك البنيان المرصوص كل مواد البناء فيه على درجة واحدة من التمدد والانقباض في الحر والقر وإلا تعرض البناء للتفكك والمجتمع كذلك بناء أفراد إذا كان فيه نشوز من جانب الأفراد فهذا معناه أن المجتمع معرض للتفكك. وهذا الشرط ، شرط انسجام الأفراد مع المجتمع، لا يمكن أن يقدمه العلم، ولكن تقدمه الأخلاق. وفي بلادنا يقدمه الإسلام والإسلام وحده، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” وهذا ليس كلاماً أدبياً. إنه ضرورة من ضرورات الحياة، ضرورات تشملها رسالة لأنه ضرورة كبرى. فلقد جاء الإسلام لتأسيس مجتمع وكان لزاماً أن يضع هذا المجتمع على مكارم الأخلاق. فالأخلاق وحدها تضمن وحدة المجتمع وصيرورة المجتمع. أي ما يتكفله المجتمع لكل فرد يعيش فيه من ضمانات، وأمن، ورعاية، وتعليم، ورعاية صحية.. الخ. ولا يمكن لمجتمع أن يقوم بهذا كله أبداَ على أساس العلم فقط. ولسنا هنا في معرض تقديم إحصائيات تدلنا على فشل العلم في وظيفته الاجتماعية. فالعلم فشل في وظيفته الاجتماعية، لكنه نجح في الناحية الأخرى نجاحاً نتقبله بكل إعجاب ولكن يجب علينا أن ندرك نقصانه في الجوانب الاجتماعية الإنسانية البحتة. فالدين هو وحده الذي يستطيع أن يؤسس مجتمعاً. والعلم لا يستطيع تأسيس مجتمع. وإذا قيل لنا إن بعض المجتمعات تأسست على غير الدين، فهذا يعني أن المعترض يحمل كلمة “دين” ما لم نحملها نحن، إذ أننا نضع لها معنى آخر. فبالنسبة إلينا كمسلمين نضع فيها معنى الهداية، هداية الله لخلقه، ولكن بالمعنى الاجتماعي فكل عقيدة تقدم للفرد المبررات الأساسية التي تحدد سلوكه وتطبع وظيفة المجتمع نحوه. فهي عقيدة وهو دين. ولا يستغرب في أن الشيوعية أيضاً تدخل في نطاق الأديان الأخرى، فهي دين من الأديان، وإنما نجيب على هذا “لكم دينكم” وصدورنا مرتاحة ومنشرحة ولا نستطيع أن نسير مع رفاقنا الشيوعيين في أمن وأمان لا يضرنا ما قدسوا من المادة لأننا نعتقد ونتمسك بما قالته الآية الكريمة: “لا يضركم من ضل إذا اهتديتم”. أما من الناحية الاجتماعية نعلم ونقر ونقول حتى للشيوعيين، بل وقلنا هذا في كتب، أن الشيوعية عقيدة معاصرة، لكنها أثبتت قاعدة مادية ولست أنا الذي أقول هذا وحدي بل هنالك من قال ذلك أيضاً مثلاً (سارج بيردان) صاحب كتاب المصادر المسيحية للشيوعية وكتاب لفيلسوف ألماني “الروح الشرقية والغرب” أو “الغرب أمام الروح الشرقية” يكررهذا وكتاب (فولنير شوباز) أيضاً يقول هذا ويشير إليه. فالمهم إذن أن الشرط الأول الذي نطلبه من الثقافة ونفترضه عليها أن تحقق الأساس الأخلاقي في المجتمع لأن المجتمع لا يقوم على غير الأخلاق لأن المعاملات الاجتماعية كلها حتى معاملات الجوار العادي لا تبنى إلاّ على الأخلاق. ثانياَ: أن تمنحنا الثقافة قيماً جمالية إذ المجتمع الذي تأسس وتكونت وحدته على أساس أخلاقي على ما نسميه المبدأ الأخلاقي يتطلب صورة ومظهراً. يتطلب تنظيمه الشكلي من حيث ملبسه، ومعاشه، وترتيب أشياء بيته. الأشياء التي تتصل بالقيم الجمالية لذا لا بد للثقافة أن تمدنا بالذوق الجمالي وتنمي فينا هذا الذوق. ويجب علينا ألا نعتقد أن الإسلام قد أهمل أو زهد في هذا الجانب، لأننا نرى أن القرآن الكريم عندما يذكر الجمال والبغال يقول: “ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون”. فكلمة الجمال ليست نفعية, الركوب مصلحي، فعندما نركب البغال والحمير نقضي مصالحنا، ولكن القرآن يبرز قيمة أخرى غير المصلحة، القيمة الجمالية يظهرها للحياة. إذن فنحن نطلب من الثقافة أن تكفل لنا هذا الجانب “الذوق الجمالي” لترتيب شؤون مجتمعنا لأن النشوز إذا كان يحدث في المستوى الأخلاقي فهو يحدث أيضاً في المستوى الجمالي. والشريعة الإسلامية قد تحدثت عن تشريع لهذا، فالطلاق والزواج مثلاً في كل منهما آداب فهنالك حالات يكون عليها الرجل أو تكون عليها المرأة حالات جمالية وليست أخلاقية ينشأ فيها طلب الطلاق سواء بطلب من الزوج أو من الأنثى وهذه أمور معروفة في الشريعة. إذن القيم الجمالية، قيم غيرية في جدول ثقافي وفي سلم القيم الثقافية. ثالثاَ: الفعالية. فالمجتمع الذي تحققت وحدته وتحقق شكله، له حاجات ضرورية ويومية تتحقق بنشأة ما سميته قبل هذا “الفعالية”. والفعالية إذا عبرنا عنها بتعبير أو مصطلح آخر نقول “المنطق العلمي” وهذا مصطلح أعرف به منذ ربع قرن، المنطق العلمي هو ما يسمى في مجال الصناعة “تايلورية”. فالمنطق العلمي هو تركيب الحركات حسب نتيجتها والوقت الذي تتخذه وتستغرقه هذه “التايلورية” نسميها نحن المنطق العلمي. والشعوب لها مقاييسها، لكنها لا تفقد المنطق العلمي لأنها تعلم أنه إذا اختل المنطق العلمي فهذا يؤدي إلى العبث ويعرض المجتمع إلى تضييع مصالحه. والشعوب على طريقتها تنقح الموضوع وتأتي بملاحظاتها عبر المثل كذلك المثل الشهير في الذي سئل عن أذنه فلف يده اليسرى حول رأسه ليشير إلى أذنه اليمنى. وهذا يعني أنه أضاع جهده، وأضاع وقته، وأتعب نفسه عوضاً عن أن يقول “هاهي أذني” قال “تلك هي” معنى هذا طبعاً إضاعة الوقت. رابعاً: التقنية أو الصناعة أو العلم وهذا هو الشرط الأخير في بناء الثقافة. فمنذ أن قامت الإنسانية بما يسمى “بتقسيم العمل” أي منذ عشرة آلاف أو أكثر من السنوات أصبحت هناك تقنية موجودة فهذا بناء وذلك طبيب أو أستاذ والآخر خياط… الخ. وتتكاثف هذه المجهودات في أداء وظيفة واحدة هي أن يقوم المجتمع الذي يتكون على الأساس الأخلاقي ويتمتع بذوق جمالي ويسلك المسالك التي يهيمن عليها المنطق العلمي, أي مسالكه لسد حاجاته اليومية بما يتعلمه في الجامعات. إذن فنحن حين انطلقنا منذ ربع قرن تقريباً في العهد الذي نسميه “الحضارة العربية” أوالحضارة الإسلامية، وتشبثنا بالعلم، كأنه الشيء الأليق الذي يحقق لنا كل ما نريده في حياتنا, فنحن كأننا استمسكنا بالربع من دورة تتضمن أربعة أجزاء. إذن في ما أعتقد إن كانت قد نشأت “أزمة ثقافية” أو كانت الأمة العربية قد واجهت في ظرف ما أزمة سميت “أزمة ثقافية” فإذا كان هذا صحيحا فالأزمة الثقافية قد تولدت لأننا تناولنا العلم على أنه ثقافة. * محاضرة ألقاها الأستاذ مالك بن نبي عام 1972 بدمشق بعنوان “أزمة الثقافة في ذلك الزمن”. و نشرتها جريدة الشرق الأوسط عدد رقم 6806 بتاريخ 17-07-1997