استخدامات لمفهوم “القابلية للاستعمار” عند مالك بن نبي

عدد القراءات :2630

اشتهر مفهوم “القابلية للاستعمار” شهرة بالغة واستخدم لدعم توجهات متناقضة، وقلما تتم العودة إلى الاستعمال الأصلي لمبتكر المفهوم وهو المفكر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي.
المفهوم شديد الجاذبية فهو يبدو كأنه يلخص نصف مشكلة الاستعمار، فهو يطلب منا إلقاء الضوء على العيوب الداخلية في بني المجتمعات التي وقعت ضحية الاستعمار بعد أن كان التركيز المعتاد لحركات التحرر ينصب أساساً على الدور الذي قامت به القوى الاستعمارية في تأبيد التخلف أو حتى صناعته بعد إذ لم يكن موجوداً.
وفي فقرة لاحقة يرى القارىء أن بن نبي لم ينكر دور الاستعمار في صناعة التخلف وبالذات في الجزائر، وأكثر من ذلك أنه وخلافاً للمعتقد الشائع عنه كان يعتبر القابلية للاستعمار بحد ذاتها نتاجاً لذلك الاستعمار وليست مقدمة مسببة له ولكنه على ما يظهر خضع أيضاً لإغراء المعنى اللغوي للمفهوم فاستعمل هذا المفهوم في بعض المواضع بالفعل بمعنى الصفة أو مجموعة الصفات البنيوية التي تسهل على الاستعمار مهمته الاستيلائية.
ولكن بن نبي في جميع الأحوال كان رجلاً غيوراً على المسلمين وما كان يبتغي من هذا المفهوم إلا حث إخوانه في الدين على نفض غبار التقاعس والكسل العقلي والجسدي والنهوض لبناء حضارة الإسلام من جديد، حضارة قوية لا يستطيع الاستعمار اختراقها.
أما مستعملو هذا المفهوم اليوم فمنهم من ينطلق من رؤية إصلاحية ومنهم من ينطلق من رؤية تريد بصورة مباشرة أو غير مباشرة تبرير الخضوع السياسي والاقتصادي والثقافي للدول الكبرى عبر التركيز على فكرة أن العيب فينا والإيحاء بأننا يجب أن نحد معركتنا بأنفسنا ولا نحاول أن نفعل شيئاً ضد الخطر الخارجي والمعنى العملي النهائي لهذا التوجه هو تبرير الخضوع والتطبيع مع الصهيونية إلى آخره، وقد لا تبدو هذه النتيجة العملية حتمية ولكننا نراها دوماً وأنا أدعو القارىء لكي يقتنع بما قلت أن يراجع البرامج الحوارية التي يشارك فيها ضيوف من المطبعين لكي يرى أن هذه الحجة غالباً ما تستعمل من قبلهم.
في كتاب “شروط النهضة” تحدث مالك بن نبي عما يسميه “معاملين” فعلا فعلهما في الإنسان المستعمر: “المعامل الاستعماري” و “معامل القابلية للاستعمار”.
هو ينطلق في تعميمه النظري من التجربة الجزائرية الطويلة المريرة مع الاستعمار الفرنسي: لقد جاء الاستعمار فوجد شعباً ذا إمكانات طبيعية عظيمة شهد لها القائد الفرنسي “الجنرال بوجو”: كان هذا الجنرال “أول فرنسي أدرك حقيقة الشعب الجزائري وما ينطوي عليه من عبقرية فذة إدراكاً وضع بمقتضاه الطريقة المناسبة لاستقرار الاستعمار”. (ص 146)
كان بوجو يريد أن يجلب إلى الجزائر معمرين فرنسيين يتكافؤون في قيمتهم مع قيمة الشعب الجزائري الذي كان على مستوى كبير من التعليم يفوق ـ بشهادات كثير من المؤرخين وبما لا يقاس ـ المستوى التعليمي للجيش الفرنسي المحتل، وهذه الحقيقة نادراً ما تذكر، كما أنه قلما تذكر حقيقة أن الأشقياء الإسبان الذين أبادوا شعوب أمريكا الأصلية كانوا في مستوى حضاري أقل من تلك الشعوب، وقد لا نصدق ذلك نحن المتعودين على تقبل فكرة أن الغرب غلب الشعوب لأنه منذ البداية كان متحضراً أكثر منها، وفي الحقيقة فإن الغرب تحضر لأنه استعمر ولم يستعمر لأنه تحضر. أن يُقهر شعب متحضر من قبل شعب أقل تحضراً أمر يجب ألا يدهشنا إذا تذكرنا ما فعله التتار ببغداد ودمشق فهل كانوا أكثر تحضراً من بغداد ودمشق؟
على أن هذا الوعي بقيمة الشعب الجزائري المسلم لم يدفع المستعمرين إلا إلى وضع خطة منظمة لتحطيم هذه القيمة وقد بدأت هذه الخطة خصوصاً بعد الهزيمة النكراء لفرنسا عام 1870م على يد بروسيا فقد أحست فرنسا بأنها لم يعد لها هيبة و “بدلاً من أن يدفعها شعورها بالنقص إلى الرفع من قيمة شعبها، فإنها ـ رغبة منها في إقرار التوازن بين المعمرين والمستعمرين ـ عمدت إلى الانتقاص من قيمة هؤلاء الآخرين، وتحطيم قواهم الكامنة فيهم، فمنذ ذلك الحين بدأ الحط من قيمة الأهالي ينفذ بطرق فنية، كأنه معامل جبري وضع أمام قيمة كل فرد بقصد التنقيص من قيمته الاجتماعية”. (ص 146)
هذه السياسة تضمنت إفقار الجزائريين وحرمانهم من التعليم والتضييق عليهم في التجارة والعمل والكتابة والكلام وإحاطتهم بشبكة مسمومة تعرقل كل جهد منتج وتنشر فيهم الأفكار المبخسة لقيمتهم.
وهكذا ترك الفرنسيون الجزائر عام 1962م بلداً تبلغ نسبة الأمية فيه 93%، بلداً حُطمت ثقافته الوطنية واستُلبت هويته بحيث لزم وضع برنامج صعب لإعادة التعريب لاقى ويلاقي المقاومة من قبل النخبة المفرنسة قليلة العدد التي زرعها المستعمرون في المجتمع والتي هي في الحقيقة النموذج الأجلى لمفهوم “القابلية للاستعمار” وإن ظن بعضهم أنها ـ على العكس ــ من طبيعة نهضوية تحمل في ذاتها بذرة القوة والاستقلال.
لنتذكر هذه النقطة: إن الاستعمار هو الذي بدأ بدفع المجتمع المستعمر إلى طريق الانحدار الحضاري ولعل هذا ما تؤكده بحوث كثيرة قالت إن مستوى التطور التقني مثلاً في المستعمرات عند بدء الاستعمار لم يكن يقل بصورة عامة عن مستوى هذا التطور في دول “المتروبول” الاستعماري، ولتفسير الهزيمة العسكرية التي قادت المستعمرات إلى مستنقع التخلف الاقتصادي والتبعية السياسية توجد أسباب كثيرة معقدة ليس من بينها بالضرورة أن المستعمرين كانوا متقدمين.
لنأت الآن إلى المفهوم الأشهر لمالك بن نبي وهو مفهوم “القابلية للاستعمار” وهو عنده “المعامل الثاني” المكمل للمعامل الاستعماري.
“المعامل الاستعماري” عامل خارجي يفرض على الكائن المغلوب على أمره الذي يسميه المستعمر “الأهلي” نموذجاً محدداً من الحياة والفكر والحركة وحين يكتمل خلق هذا النموذج يظهر من باطن الفرد معامل “القابلية للاستعمار” وهو معامل يجعل الفرد يستبطن مفاهيم المستعمر عنه ويقبل بالحدود التي رسمها المستعمر لشخصيته، ليس ذلك فحسب بل يدافع عنها ويكافح ضد إزالتها.
وبن نبي في ملاحظة وجيهة تذكرني بما دعوته في مقالات اخرى “بالاستلاب” يقول إن أول مظاهر فاعلية هذا المعامل هو قبول ضحية الاستعمار باسم “الأهلي” يقول بن نبي ساخراً: “إذا لم نكن شاهدنا خصياناً يلقبون أنفسهم بالخصي فقد شاهدنا مراراً مثقفين جزائريين يلقبون أنفسهم بالأهلي”. (ص 153)
وقبول الاسم يعكس قبولاً شاملاً بالوضعية التي فرضها المستعمر وهذا القبول لا يتموضع فقط في منطقة الوعي بل ينغرس في أعماق اللاوعي ليصبح “استبطاناً” للمفهوم الاستعماري عن الذات، مفهوم يبخس من قدرها ويحد فاعليتها الحيوية وتصوراتها عن نفسها وعن العالم بالحدود التي يريدها المستعمر وهكذا يصبح المستعمر ينفر من العمل الجدي ومن العلم ومن دعاة الفضيلة.
عامل “القابلية للاستعمار” كما يشرحه بن نبي هنا هو العامل الداخلي المستجيب للعامل الخارجي، إنه رضوخ داخلي عميق لعامل الاستعمار، يرسخ الاستعمار ويجعل التخلص منه مستحيلاً.
على أن القارىء لمجمل كتابات بن نبي يرى أنه لا يعتقد بحتمية ظهور القابلية للاستعمار عند كل حالة استعمارية فهو يستشهد بألمانيا واليابان اللتين وقعتا تحت الاحتلال ولم تظهر فيهما قابلية الاستعمار.
ومن جهة أخرى فثمة بلاد لم يدخلها الاستعمار ولكن فيها كما يقول قابلية الاستعمار، وبهذا نرى أن بن نبي يستعمل مفهوم “القابلية للاستعمار” بمعنيين مختلفين: المعنى الأول تكون فيه هذه القابلية ناتجة عن الواقعة الاستعمارية أو بتحديد أكثر عن الرضوخ الداخلي لهذه الواقعة وتقبلها ورفض إزالتها، أما المعنى الثاني فتكون فيه “القابلية للاستعمار” مجموعة من الصفات العقلية والنفسية وما يناسبها من علاقات اجتماعية تجعل المجتمع لا يستطيع مقاومة الاستعمار وتسهل للاستعمار مهمته.
المعنى الثاني هو الذي اشتهر حقيقة وهو الذي يساء استعماله، فإذا كان بن نبي أراد منه نقد المجتمع الإسلامي وتأنيبه وتبصيره بوضعه المزري لحثه على النهوض والتخلص من عيوبه فكان بهذا ابناً شفوقاً رحيماً بهذا المجتمع ينقده بدافع الغيرة عليه، فإن كثيراً ممن يستخدمونه الآن يريدون منه الدفاع عن الاستعمار بتركيز كل اللوم على مجتمعنا وحجب الأضواء عن القوة الخارجية الهائلة التي تضغط بل تضرب بقبضة حديدية كل حركة نهضوية عند المسلمين.

المصدر: موقع البلاغ

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.