قراءة في فكر مالك بن نبي(4)

عدد القراءات :2947

كان تشخيص أمراض العالم الإسلامي عـنـد مـالـك بن نبي مقدمة للبحث عن العلاج ، أو للبحث عن أسس النهضة ، وكيف تبدأ؟ ومن أين تبدأ؟ إن بلداً مثل اليابان بدأ نهضته في منتصف القرن التاسع عشر (1) وهي نفس الفترة الـتـي بـدأ الـحديث فيها عن النهضة في العالم الإسلامي ، فلماذا كان هذا البطء في (الإقلاع)؟.
الـسـبـب بـرأى مـالـك بن نبي هو عدم وجود منهج واضح للإصلاح ولا نـظـرية مـحـددة للأهداف والوسائل وتخـطـيـط للمراحل. “فإذا حللت جهود المصلح الإسلامي وجدنا فيها حسن النية ، ولكنا لانجد فـيها رائحة منهج ” (2) “وليس هناك تحليل منهجي للمرض وليس إلا أن عرف المريض مرضــه فاشتد في الجري نحو الصيدلي -أي صيدلي- يأخذ من آلاف الزجاجات ليواجه آلاف الآلام”(3) “وواقـعـنــا الآن إمــا فكرة لا تتحقق أو عمل لا يتصل بجهد فكري”(4).
لا شك أن هذا الكلام حول (المنهج) صحيح ودقيق ، فليس هناك دراسات عميقة وتحليلية لأمــراض المسلمين ، وما هي الحلول والمقترحات وما هو المهم والأهـم ، وكـل الـدراســات تأخــذ جـانـبــاً مـن الجـوانـب تركز عليه والحل الأحادي هو الغالب ، وأعمال كثير من المؤلفين كانت تبريراً ودفاعاً أمــام الهجوم الغربي الاستشراقي على الإسلام (5) ، وليست أعمالاً فيها تخطيط للحاضر والمستقبل ، غابت المؤتمرات التي تخرج بنتائج فعلية واقعية وكثرت تلك التي توصي بوصايا لا تخرج عن دائرة الورق التي كتبت عليه.
والذين كتبوا في أوائل النهضة كتابات جـيـدة مـثل الشيخ رشيد رضا لم يستفد منها كثيراً ولم تـنـقـح ويؤخذ الإيجابي مـنـهـا ، ويبنى عليه ، وكذلك الذين جاءوا من بعده لم يكن هناك خطة علمية لدراسة أقوالهـم وآرائهم ، وكأنما كل من يـأتـي يريد البدء من الصفر ، بل نستطيع القول : إن كثيراً من الأخطاء التي وقعت سواء في مجال الدعوة أو غيرها انما كانت بسبب غياب المنهج أو عدم الالتزام بمنهج.
وإذا كنا لا نملك الوضوح من الناحية النظرية فضلاً عن وجود منهج تطبيقي عملي فهذا لا يعني عدم وجود المنهج ، فالقرآن الكريم والسنة أوجدا المناخ المناسب لأن يسـتـنبط العلماء منهج أهل السنة في النظر والاستدلال وطرق الحياة التي يريدها القرآن (6) ، فـعندما يقول سبحانه : (ولاتَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) نجد الصحابة يفهمون هـذا الـتـوجـيه ويلتزمون به ، فأمير المؤمنين عمر بن الخطاب لا يعلم معنى كلمة ((وَأباً)) من آية (وفَاكِهَةً وأَباً) فلا يتكلف الجواب ولا يحاول التعالم ، بل يرى أنه من التكلف معـرفـة كل شـيء ، وأبو بكر -رضي الله عنه- يقوم بعمل علمي طبقاً لمنهج ، عندما أعطى تعليمات مشددة لزيد بن ثابت ، الذي كلفه بجمع القرآن ، وكذلك عثمان بن عفان يشكل لجنة لجمع الناس على مصحف واحد (7).
وفـهم الكتاب والسنة هو الذي جعل الإمام مالك والأوزاعي وأمـثـالـهـمـا يكرهـون الجـدل والخصومات في الدين ويركزون على العمل ، وقد وضح هذا المنهج بشكل نظري في كتابات ابن تـيـمـيـة وخاصة كتابه العظيم (درء تعارض الـعـقـل والنقل) وكان بالإمكان بناء نهضة علمية عملية لو أخذ المسلمون بهذا المنهج ، ولكنهم مـع الأسـف غـرقـوا في الجـدل وعـلـم الكلام فأبعدوا عن مجالات القيادة.
والجدل أسهل من البحث والاستقراء والخروج بـنـتـائج في شتى مجالات العلوم. وإذا كان للمنهج هذه الأهمية “فإن نجاحه مرتـبـط بــتـنـاول المـشـكـلـة من جانبيها معاً (الاستعمار والقابلية للاستعمار) ، فإذا نظرنا إلى جانب دون الآخر فقد غامرنا برؤية مشكلة مزيفة” (8).
لذلك وقبل أن ننتقل إلى موضوع (إقلاع) العالم الإسلامي باتجاه بناء حضارة لابد أن نعرض وجهة نظر مالك بن نبي في الاسـتـعـمـار الـذي هـو الجـانـب الخـارجي مـن المشكلة ، أو الجانب السلبي لنكون على وعي تام بما يدبر لإعاقة النهضة الإسلامية.

الاستعمار والصراع الفكري :
إن عـرض مـشـكـلـة الاسـتـعـمـار يـبـدو أكثـر أهمية إذا علمنا أنه ركز هجومه على العالم الإسلامي، بينما كان أقل شراسة ولؤماً مع الشعوب الأخرى ، وحاول إجهاض أي عـمـل إسـلامي مثمر ، واستخدم أخبث الوسائل ومنها الوسائل الفكرية.
ومالك بن نبي وإن كان ممن لا يعلقون أخطاء وتـقـصـيـر المـسـلمين على شجب (الاستعمار) وحده بل يهتم بالعوامل الداخلية ، ويرى أنها الأساس في البـحـث والـتـحلـيل ، إلا أنه خبير بخفايا هذا الاستعمار ومواقفه من قضايا المسلمين ، لذلك جاءت ملاحظاته وتعليقاته على هذا الجانب فيها عمق ومعاناة ، فقد قرأ الكثير وعانى الكثير من استـعـمـار فـرنـسـا للجزائر ، وهو يرى أننا إذا أردنا أن نتقصى الحركة الاستـعمـارية من أصـولها فلا بـد أن ننظر إليها كعلماء اجتماع لا كرجال سياسة (9) ، فظاهـرة الاسـتـعـمـار من طبـيـعة الرجل الأوربي ، فكلما وقع اتصال بين الأوربي وغـيـر الأوربي خارج إطار أوربا فهناك (مـوقـف استعماري)(10) بينما نجد في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية أن رحلات ابن بطوطة وأبو الفداء والمسعودي لم تثر شهيتهم للاستعمار. ورحلات مثل هذه تثير شهية الأوربي ، إن تحليل (منوني) الكاتب المتخصص بنفسية الاستعمار ، يقول : »إن الأوربي يحب عالم دون بشر« ولو قال منوني إن الأوربي يحب عالم دون شهود على جريمته لكان هو الصواب(11).
وحتى بعض الأفراد الغربـيـين الذين يـشـاركـون في المعركة ضـد الاستعـمـار إنمـا يشاركون مادامت في النطاق السياسي ، وسرعان ما ينعزل عنها حينما تأخذ طابع الصراع الفكري ، فالرجل المستعمَر لا يحق له الدخول في الميدان الفكري« (12).
وفي ميدان الصراع الفكري وخاصة مع الشباب المسلم الذي يدرس في الغرب نرى الاستعمار يستخدم بخبث منطق الفعالية وخلاصته : (بما أننا نحن المسيطـرون ونـحـن الأقـوى إذن فأفكارنا صحيحة).
“ويعتبر هذا اللبس المفروش في أعماق نفسية هذا الشباب هو النواة التي تدور حولها جميع دسائس الصراع الفكري ومناوراته” (12). وقد يرفع الاستعمار أمام أعين المستعمرين شعاراً صحيحاً وهو يعلم أن المستعمرَ سيرفضه لأن الذي رفعه عدو ، وبهـذا يكـون قـد صـرفه عن عمل إيجابي قد يفكر فيه في المستقبل.
يروي مالك بن نبي تجربة من تجاربه فيقول :

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.