قراءة في فكر مالك بن نبي1
إذا عُدَّ المفكرون من المسلمين في هذا العصر فإن مالك بن نبي هو من هذه القلة الذين ينطبق عليهم هذا الوصف ؛ فالمفكر هو الذي يدرس ويتأمل ويقارن ويحلل المشكلة إلى أجزائها ، ثم ينسق ويركب ويجتهد في إيجاد الحلول. وقد ترددت كثيراً قبل الكتابة عن مالك بن نبي ؛ لا لأنه عميق الغور ، غوَّاص في البحث والتنقيب ، أو لأن تتبع آرائه وأفكاره يحتاج إلى جهـد ، بـل لأنـه يطـرح أفكاراً وآراءً لا تتناسب مع عمق تفكيره ، يقف الإنسان أمامها حائراً : من أين جاءته ؛ وما هي الخلفية الثقافية التي جعلته يتبنى هذا الرأي أو ذاك ؛ وهل هو مؤيد أم مـعـارض ؟ وقد كان ذلك التردد وإعادة القراءة مرات ومرات حتى لا نظلمه ، وليستبين الحـق وتـتـضـح الصورة ، وتحل الإشكالات. إن الكتابة عن مالك بن نبي ضرورية للأجيال التي يجب عليها أن تـتـعرف على ما كتبه أصحاب الخبرة والتجربة في مجال الصراع الفكري المحتدم بين أوربـا المستـعـمـرة والعالم الإسلامي منذ نهاية القرن الثامن عشر ، فلم يعد من المجدي طرح الحلول العامة والعائمة ولابد من الدخول في التفاصيل ، ومعرفة أسباب الفشل وأسباب النهضة ، ولكن العجب لا ينقضي عندما ندرك أننا في كثير من الأحيان لا نستفيد مما كتبه السابقون لنا الذين تصدوا للإصلاح في أوائل هذا القرن. يقول الأستاذ الشيخ محمود محمد شاكر – في تقديمه لكتاب “في مهب المعركة” مصوراً هذه الظاهرة : “فإذا نحن نرى أنفسنا في ضوء ما كَتب قديماً ، كأننا لم نـتـقـدم خـطـوة في فهم الـبـلاء الـذي يـنـزل بـنا ولا يزال ينزل ، وأشد النكبات التي يصاب بها الـبـشـر نـكـبـة الغفلة…” (1).
ولمالك مشكـلـة خـاصـة في انصراف بعـض الشباب المسلم عن قراءة إنتاجه الفكري ، وهي إحدى الأسباب وليست السبب الوحيد على كل حال؛ فقد كتب سيد قطب رحمه الله: “لقد كنت أعلنت مرة عن كتاب لي تحت الطبع بعنوان “نحو مجتمع إسلامي متحضر” ثم عدت في الإعلان التالي عنه فحذفت كـلـمـة (مـتـحـضـر) ، ولـفت هذا التعديل نظر كاتب جزائري (يكتب بالفرنسية) ففسره على أنه ناشئ عن (عملية دفـاع نفـسـيـه داخلـيـة عن الإسلام) وأسف لأن هذه العملية – غير الواعية – تحرمني مواجهة المشكلة على حقيقتها. أنا أعذر هذا الكاتب… لقد كنت مثله من قبل… كانت المشكلة عندي – كما عنده اليوم- هـي مـشكـلـة (تـعـريـف الحـضـارة).. ثـم انجـلت الصورة (المجتمع المسلم) هو (المجتمع المتحضر)” (2).
وفهم الشباب المسلم أن هذا الكاتب الجـزائـري واقع تحت ضغط آتٍ من مصادر أجنبية ، فكان ذلك سبباً لابتعادهم عن قراءة فكر مالك، ولكن القضية هي قضية مصطلحات؛ فمالك يتكلم عن المجتمع الإسلامي الموجود وأنه يحــتـاج إلى رفـعـه إلى مستوى الحضارة حـتـى يستأنف دوره – وطبعا لا يعني هنا الحضارة الـغـربـية وإنما الحضارة بتعريفه هو – وسيد يتكلم عن المجتمع الإسلامي المنشود وأنه إذا وُجد فـثـَم الحـضـارة ، والإسلام هو الوحيد الذي ينتج حضارة متكاملة، ولا شك أن سيداً – رحمه الله – أنقى وأوضـح تصوراً وفكراً، وهو ينظر إلى الحضارة الغربية من علٍ ؛ لأنه المسلم المتميز بعقـيـدتـه وتصوراته ، ولكن مالكاً هنا يبحث في التفاصيل والجزئيات ، وكيف يركبها لينتقل بالمسلم من حالة التخلف والركود إلى حالة (الإقلاع) للدخول في دورة الحضارة مرة ثانية ، وسـيـد يـرى اسـتـيـراد النظريات العلمية(مجردة) ومالك يقول : هذه الأشياء المستوردة هي نتاج حضارة وثقافة ، هذه الأشياء صنعها علم النفس وعلم الاجتماع أيضاً ، ولذلك سواء استوردناها أو صنعناها لابد أن تكون هناك ثقافة تحيط بها حتى تضعها في مكانها المناسب ، وحتى لا تتحول إلى (تكديس) وهذه الثقافة هي الثقافة الإسلامية.. إن ظاهرة انصراف بعض الـنـاس عـن فـكـر مـعيـن – بسبب كلمة تقال من عالم مشهور – ليست جديدة ولا غريبة ، فعندما ترجم أحد العلماء للمؤرخ ابن خلدون ؛ تكلم فيه وانتقد عليه بعض التصرفات الشخصية عنده ، فكان ذلك من أسباب إعراض الناس عن (المقدمة) الـتي تـعتـبـر أعظـم ما أنـتـجـه المسلمـون في علـم الاجتـمـاع وفن النقد التاريخي، ولمالك إيجابيات كثيرة سنتكلم عنها إن شاء الله ، وله أخطاء ، ولابـد مـن عرض كليهـمـا حتى يتبين وجه الصواب لمن أراده ، وهو واضح جلي والحمد لله.
نبذة عن حياته :
وُلد مالك بن نبي في مدينة قسنطينة في الجزائر عام 1905 ، ونشأ في أسـرة فقيـرة ؛ لأن جده لأبيه هاجر إلى طرابُلس الغرب احتجاجاً على الاستعمار الفرنسي وحـمـل مـعـه كـل أملاك العائلة ، هذا الميلاد جعله يتصل بالماضي عن طريق من بقي حياً من شهوده (3). انتقل والده إلى (تبسة) فعاش فيها طفولته وكانت هذه المدينة الصغيرة بعيدة نـوعـاً ما عن (الحضور الفرنسي) وذلك لاحتكاكها بالقبائل المجاورة ؛ فحفظها الـطـابـع الـبـدوي عن الاختلاط مع الفرنسيين ، وفي (تبسة) كان يدرس في الصباح العربية والقرآن ثم يذهب في الساعة الثامنة إلى المدرسة الحكومية الفرنسية ، وفي المرحلة التكميلية كان يتابع دروس العربية والدين ، وكانت المدرسة الفرنسية تشجعه على المطالعة عن طريق إعارة الكتب. تعرَّف على تلاميذ ابن باديس من الشباب ، وشعر أنه – وإياهم – على خط فكري واحد ، وكان يقرأ (الشهاب) و(المنتقد) قبلها ولكنه لم يتصل بالشيخ ابن باديس ولا تتلمذ عليه ، وفي (تبسة) حيث تعيش أسرته لم يتتلمذ أو يؤيد تأييداً قوياً الشـيـخ الـعـربي التبسي ، وكأن هناك حاجزاً نفسياً بينه وبين المشايخ ، ويعترف بعد ربع قرن : “حـينـمـا تفحصت شعوري حول هذا الموضوع تبين لي أن السبب يكمن في مجموعة من الأحكام الاجـتمـاعـيـة المسبقة ، وفي تنشئة غير كافية في الروح الإسلامي” (4) ، ويتابع الحديث عـن الأسـبـاب الاجتماعية : “فأحكامي المسبقة ربما أورثتنيها طفولتي في عـائلـة فـقـيـرة في قسنـطـيـنة ، زرعت لاشعورياً في نفسي نوعاً من الغيرة والحسد حيال العائلات الكبيرة التي كان الشيخ العربي ينتمي إلى واحدة منها” (5) ، “وكنت أعتقد أنـني أقـرب إلى الإسلام بالبقاء قريباً من البدوي أكثر من البلدي الرجل الذي يحيط به وسـط مـتحـضـر ، وكـان الشيخ العقبي يبدو في ناظري بدوياً ، بينما يبدو الشيخ ابن باديس بلدياً” (6) ، فقد تبـيـن لـنـا أسباب جفائه لزعماء جمعية العلماء وهو شاب ، أما عندما نضج فكرياً فسيكون له مـوقـف مـبـني على أسس عنده سنتكلم عنها إن شاء الله. بعد الانتهاء من الثانوية عمل متطوعاً في محكمة (تبسة) وهناك تعرف – من خلال تجوال أعضاء المحكمة في الريف – على رجل الفطرة الذي يستضيف أعضاء المحكمة رغم أنـهـم حكمـوا علـيـه بالـضرائـب والـغرامـات، ثم عمل موظفاً في محكمة (آفلو) التي تقع جنوب وهران في غرب الجزائر ، وهناك أيضاً تعرف على الكرم العربي والفطرة الصادقة: “فـالـناس في المدن لا يستطيعون فهم هـذه الـعقـلـيـة أو ذاك الـنـبـل في عـروق الـبـدوي” (7)،وتعرف على فضائل الشعب الجزائري قبل أن يفسده الاستعمار ، ثم انتقل للعمل في محكمة (شاتودان) ولم يطق معاملة موظفيها ؛ فاستقال وتوجه إلى فرنسا وذلك عام 1930م في محاولة للانتساب إلى معهد الدراسات الشرقية ، ولكن طلبه رُفض ؛ لأن الدخول لهذا المعهد – كما يقول هو – لا يخضع لمقياس علمي وإنما لمقياس سياسي. انتسب إلى مدرسة اللاسلكي ودرس الكهرباء والميكانيكا ، وهذه الدراسة أعطته بُعداً آخر يقول عنها : “فتح لي عالم جديد يخضع فيه كل شيء إلى المقياس الدقيق للكم والكيف ، ويتسم فيه الفرد – أول ما يتسم -بمَيزات الضبط والملاحظة” (8) ولكن دخوله مع العمل الطلابي المغربى وتعرفه على صديقه (حمودة بن الساعي) بدأ يغير من اتجاهه العلمي إلى التعمق في الدراسات الاجتماعية. تخرج مهندساً كهربائياً عام 1935 وبدأ رحلة شاقة في البحث عن عمل في البلاد العربية وغيرها ، وكانت الأبواب توصد في وجهه دائماً ، وسبب ذلك في رأيه هو أنه أراد تمزيق شبكة الاستعمار ولم يدرِ أن سمك القرلق (الاستعمار) كان له بالمرصاد. زار الجزائر في هذه الفترة ، ولاحظ وقوع الناس في حُمى الانتخابات والدجل السياسي بعد المؤتمر الجزائري. عاد إلى فرنسا في مطلع الحرب العالمية الثانية مودعاً الجزائر بهذه العبارة : ” يا أرضاً عقوقاً ! ؛ تطعمين الأجنبي وتتركين أبناءك للجوع ، إنني لن أعود إليك إن لم تصبحي حرة !” ، وبقي في فرنسا حتى عام 1956 أصدر فيها باللغة الفرنسية : “الظاهرة القرآنية” ، “شروط النهضة” ، “وجهة العالم الإسلامي” ، “الفكرة الإفريقية الآسيوية”. زار مصر عام 1956 وبقي فيها حتى عام 1963، وكان له في مصر تلاميذ وأصدقاء ، وزار خلالهـا سـوريـة ولـبـنان ألقى فيها المحاضرات حول موضوع “مشكلات الحضارة” ، وفي الـقـاهـرة أصـدر : “حـديـث في الـبـنـاء الجـديد”، “مشكلة الثقافة”، “في مهب المعركة”، “تأملات في المجتمع العربي”. عاد إلى الجزائر عام 1963 حيث عُين مديراً عاماً للتعليم العالي وأصدر في الجزائر : “آفاق جزائرية” ، “يوميات شاهد للقرن” ، “مـشكـلـة الأفـكار في العـالم الإسلامي” ، “المسلم في عالم الاقتصاد”. استقال من منصبه عام 1967 وتفرغ للعمل الفكري. توفي في 31/10/1973 في الجزائر – رحمه الله وغفر له
-.
شخصيته :
يجتمع في مالك بن نبي خطان رافقاه طوال حياته ، فهو شخصـيـة عـاطـفـيـة ، خيـالـيـة أحياناً ، يفكر بأحلام الفلاسفة ويهيـم بالتجريد. يـقـول عن نفسه : “أنـا شـديـد الـتـأثـر بالحدث ، وأتلقى صدمته بكل مجامـعـي وبـانفعالـية تستطيع أن تنتزع مني دموع الحزن حين يثير الحدث الحبور من حيث المبدأ” (9) وقـد بـكى عنـدما اندحر الجيش الفرنسى أمام ألمانيا عام 1940 مع أنه يكره الاستعمار الفرنسى ، ويعلـق هو على هذا التصرف : “رأيت في ذاتي عنصراً آخر كشف كل التعقيد في ضمير مسلم” (10) ولم يوضح ما هو هذا العنصر الآخر ولكن يبدو لي أنه عدم التوازن بين القيم الأخلاقية وأيها يصلح لتطبيقه على الحدث ، وعندما سمع حديث والدته وذكرياتها عن الحج لم يستطع حبس دموعه فكان يتظاهر بالعطش ليخرج إلى الشرفة فيطلق العنان للدمع(11). هذه العاطفة أنتجت له شخصية حالمة أحياناً ، فعندما يسمع ويقرأ عن شاعر مثل (طاغور) تتفتح أمامه الأحلام عن الشرق وأن الإنقاذ ربما يأتي من روحـانـيـة الهـنـد كما يسميها ، وعندما يسمع بأنباء الخلاف بين الملك عبد العزيز آل سعود وإمام اليمن يكـتب رسالة إلى سفارة اليابان يدعو حكومتها للتدخل باسم التضامن الآسيوي لمساعدة ابن سـعـود حتى لا تتمزق الجزيرة العربية ، وطبعاً لم يستجب (الميكادو) لطلبه ! وفي الجانب الآخر نجد شخصية مالك الناقد المحلل الذي يمتـلك الـقـدرة الـفـائـقـة على النفاذ لأعماق المشكلة وبيان أسبابها ، من خلال الـنـظرة العلمـية الصـارمـة ، ومـن خلال اطلاع واسع على الثقافة الغربية وكيف تنشأ الحـضارات مع معرفـة بواقـع المجـتـمـعات الإسلامية من خلال معرفته الشخصية بالمجتمع الجـزائـري ، وهو في مقارناته وتحليلاته يشبه سلفه المغربي المؤرخ ابن خلدون ، حيث تلتـقـط الـذاكـرة كل جزئية وكل حادثة ثم يبدأ التحليل والمقارنة ثم يخرج بالنتـائج الـتـي يرتـضيـها ، يقول عن سكان (أفلو) عندما عمل عندهم كمساعد في المحكمة : “فملكية الإنسان لأرض ما تخلق في نـفسـه غـرائـز اجتمـاعـيـة قد سلم منها الراعي ، ففي دعوى أمام القضاء في (تبسة) يستطيع كل فريق أن يقدم عشرة شهود زور بالمجان، وشهود كل واحد من الطرفين سيحلفان أنهما يقولان الحقيقة ، أما في (أفلو) فقد لاحظـت الـرجل يرفض غالباً أن يحلف ولو كان ذلك لدعم حقه الواضح”(12). وعندما أراد القيام بعمل علمي مشترك مع صديقه (ابن الساعي) فشلت المحاولة ؛ فـعـلـق قائلاً : “ولم أكن أعلم أن العمل الجماعي بما يفرض من تبعات إنما هو من المقومـات التـي فقدها المجتمع الإسلامي ثم لم يسترجعها بعد خصوصاً بين مثقفيه” (13). هذان الخطان استمرا في حياة ابن نبي ، فالعاطفة التي تجمح إلى الخيال أحياناً جـعلـتـه يعقد في الخمسينات آمالاً كباراً على مؤتمر باندونغ وظن أنه سيحل مشكلة العالم الثالث ، ومن رفات (غاندي) سينطلق يوماً انتصار اللاعنف ونشيد السلم العالمى (14). كمـا استـمـر النقد التحليلى المجتمع الإسلامي ومواطن الضعف فيه فتكلم عن الذين يظنون أن الإصلاح يبدأ من (علم الكلام) كالشيخ محمد عبده ، يقول : “إن مـشكلـتـنا ليـسـت في أن نـبـرهـن للمسلم على وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده ونملأ به نفسه” (15). ويكتشف مالك جرثومة المرض ، فالـذين تـركـوا الـطـواف حول القبور وأخذ البركات من الدرويش لم يستطيعوا الاستمرار فتحـولـوا إلى الطـواف حول وثن جديد وهو وثن الأحزاب السياسية والانتخابات (16) ، ولأن العمائم أسلـمـت القـيادة إلى (المطربشين) ؛ لأن العلماء لم يكونوا على جانب من الخبرة بوسائل الاستعـمـار في مجال الصراع الفكري حتى يفطنوا إلى هذا الانحراف (الغوغائية السياسية).
العوامل المؤثرة في ثقافته :
1 – وُلد مالك بن نبي في عصر سمع فيه من جدته لأمه قصص الاحتلال الفرنسي للجزائر ، وعاش مأساة بلد يخطط الاستعمار لشل فاعليته ، ومن ثـم لـتحويلـه إلى فـريسـة سهلـة الالتهام ، عاشها مالك يوماً بيوم في المدرسة الفرنسية حيث لا يسمح (لابن البلد) إكـمـال الدراسة الثانوية التي تؤهله للدراسات الجامعية ، وعاشها في تحول المجتمع عن فطرته وكيف ساد الصعاليك بمعونة الإدارة الفرنسية ، وكيف أصبحت العائلات العريقة فقيرة ، ذليلة بسبب الاستيلاء على أراضيها ، وكان اليهود هم الواسطة لانتقال الملكية من أبنـاء البلاد إلى أبناء المستعمر ؛ فاليهودي دائماً كان يقرض بـفـائدة 60% ، وعنـدمــا درس في فرنسا وعاش مع الجالية الجزائرية رأى الاستعمار من زوايـاه المختلفة ، وشـعـر بخـبـث الأساليب التي يقوم بها لتمزيق العالم الإسلامي.
2 – القراءات الغزيرة المتنوعة ، فقد بدأ بالقراءة منذ أن كان صغيراً في الابتدائية ، وقرأ كتب علم النفس والاجتماع وهو لا يزال في المرحلة الثانوية ، وكان يقرأ كل الصحف التي تصل إلى قسنطينة أو تبسة ، ولا شك أن هذا الاطلاع الواسع على الثقافة الغربية هو في جانب منه على حساب الثقافة الإسلامية وكان له أثر عليه أيضاً ، فكثرة قراءاته لأعمال الفلاسفة جعلته يعتبر عصر الفارابي عند المسلمين هو عصر خلق الأفكار مع أن الفارابـى وأمثاله لم يقدموا شيئاً يذكر للحضارة الإسلامية ، وكانت نغمة (الإنسانية) و(الـعـالميـة) سائدة عند الفلاسفة الغربيين ، ونجد مالك يكررها فيتكلم عـن حضـارة الـيـوم التي تسير نحو الشمول والعالمية (17) ويستعمل أحياناً عباراتهم التي هي نتيجة انفصام عندهم بين الدين والعلم مثل قوله : “إن الطبيعة توجد النوع…” (18) أو وهبته الطبيعة.
3 – ثقافته الإسلامية : يـعتـرف مـالك بـأن الذي كان يـرده عن الـغلـو في هـذا الاتـجـاه (القراءات الكثيرة للفكر الغربي) هو ما كان يتلقاه من دروس في التوحيد والفقه ، وقراءاته للكتب التي تأتي من المشـرق الـعربي مثل : “الإفلاس المعنوي للسياسة الغربية في الشرق” لأحمد رضا ، و”رسـالـة الـتوحيد” للشيخ محمد عبده ، و”طبائع الاستبداد” للكواكبي ، والمجلات الإسلامية الجزائرية مثل (الشهاب) التي يصدرها الشيخ ابن باديس ، ولا شك أن ثقافته الشرعية ضعيفة ولكن عنده اطلاع على التاريخ الإسلامي وقدرة على فهم الآيات والأحاديث التي تتعلق بسنة التغيير الاجتماعى وبسبب عمق تفكيره وتحرُّقه على العالم الإسلامي كان يرى أن بذرة عـودة الـوعـي للأمة الإسلامية هي في حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي يعتبرها امتداداً لما قام بـه ابـن تيـمـية في التجديد ، ولنفس السبب أيد جمعية العلماء في الجزائر وكان يعقد الأمل عليهم في الاصـلاح وإن اخـتـلف معهم بعدئذ ، ولبُعده عن المشرق ولضعف ثقافته الشرعية كان يمجّد جمال الدين الأفغـاني وتلميذه محمد عبده ويرى أن الأول هو مصلح الشرق ؛ فثقافته الإسلامية خليط من آراء مدرسة الأفغاني ومحمد عبده ومن فهمه لآيات القرآن وسنن التغيير ، وأنه لابـد مـن الـرجـوع إلى طـريـقـة القرآن والسنة في رفع الناس إلى مستوى الروح كما يعـبـر هـو ، والحقيقة أنه يجمع أشياء متناقضة وإن بدت منسجمة بالنسبة له.
4 – ومن المؤثرات الواضحة في شخصيته ما عاناه من الـفـقـر الشـديـد في طفولـته ، وحياة النَّصَب والتعب التي عاشها في شبابه بحثاً عن العمل ، سواء في الجزائر أو فرنـسـا ، فـقد عمل بعد تخرجه من الثانوية في مصنع للأسمنت في مدينة (ليون) بفرنسا ، فكـان يـحـمـل الأكياس على ظهره ، ومرة باع بعض ملابسه حتى يوفر وجبة غداء ، وبعد تخـرجـه من الهندسة طرق أبواب العمل في الدول العربية والإسلامية ولكن دون جدوى. هذه الأوضاع النفسية جعلته يكره – وهو صغير – الدور المتـرفـة الـتي كـانت تـفـضح أمـام ناظريه بؤس أقاربه ، وأحكامه المسبقة كانت بسبب العيش في عائلة فقيرة زرعت لاشعورياً في نفسه من الغيرة والحسد حيال العائلات الكبيرة(19) ، وكـان يعـجـبـه مطالعة صحيفة (الإقدام) التي يصدرها الأمير خالد الجزائري والـتـي كانت تـركز على مـوضـوع الـفـلاح الجزائري وبؤسه. هذا ما يفسر لنا ميله للدول التي بدأت بتطبـيـق الاشتراكية كالجمهـوريـة العربية المتحدة (20) والجـزائـر بـعـد استـقـلالهـا (21)، وبتأثـيـر من هذه الـدول كان يـظـن أن الاتحـاد السوفييتي ليس عنده مُناخ استعماري وهو صديق للشعوب !
– يتبع-
الهوامش :
1 – مالك بن نبي : في مهب المعركة ، تقديم محمود محمد شاكر ، 3.
2 – سيد قطب : معالم في الطريق ، 117.
3 – مالك بن نبي : مذكرات شاهد للقرن ، 15.
4- مالك بن نبي : مذكرات شاهد للقرن ، 131.
5 – المصدر السابق ، 131.
6 – المصدر السابق ، 132.
7 – المصدر السابق ، 174.
8- مالك بن نبي : مذكرات شاهد للقرن ، 219.
9- مذكرات شاهد للقرن ، 137.
10 – المصدر السابق ، صدق مالك في تحليله هذا ؛ فقد سمعت من أحد الإخوة العاملين في حقل الدعوة الإسلامية أنه بكى عندما سمع بنبأ هلاك عبد الناصر مع أنه يكرهه كرهاً شديداً !.
11 – المصدر السابق ، 291 .
12- مذكرات شاهد للقرن ، 176.
13 – المصدر السابق ، 235.
14 – في مهب المعركة ، 87.
15 – وجهة العالم الإسلامي ، 55.
16 – شروط النهضة ، 34.
17 – في مهب المعركة ، 33.
18 – ميلاد مجتمع ، 16.
19- مذكرات شاهد للقرن ، 131.
20- ميلاد مجتمع ، 48.
21- بين الرشاد والتيه ، 24
المصدر:(( مجلة البيان ـ العدد [ 16 ] 28 جمادى الآخرة 1409 ـ فبراير 1989 ))